راندا الهادي تكتب: (الله يرحم النحو وسنينه)!!

دائمًا أنظر للجيل السابق والأكبر سنًّا على أنه الأفضلُ من نواحٍ كثيرة، من حيث العقل والرزانة والأخلاق واحترام المبادئ والتزام الأولويات. ويؤكد ذلك أمرُ نبينا الكريم محمد _ صلى الله عليه وسلم _ باحترام الكبير، وما نجده في تراثنا الشعبي الذي رفع مقولة: (أكبر منك بيوم يعرف عنك بسنة)، ومن هنا جُبِلنا _ نحن جيلَ السبعينيات والثمانينيات _ على تقدير الأكبر، ومن هنا أيضًا جاءتنا الصدماتُ الواحدة تلو الأخرى!!
عندما بدأتُ مشواري في مجال الإعلام كنا نركز في الأخطاء الشائعة، وأكاد أجزم أن كلَّ واحدٍ من دفعتي بالإذاعة كان يَحمل دفترًا خاصًّا يُدون فيه ما يجب أن يُقال _ على شاكلة قل ولا تقل _ وما تاه عنه من قواعد النحو التي لم تمهله سنواتُ التعليم أو ذاكرتُه من الإلمام بها. وفي يوم من الأيام اجتمع لي الحظ من أطرافِه، وعمِلتُ لفترة مع أستاذ الإعلام وأحد أكابره الأستاذ (محمود سلطان) _ رحمه الله _ وبأحد فترات العمل شرفتُ بقراءة النشرة معه، وسمعتُه يقرأ كلمةً _ كانت خطأ شائعًا _ كما يقولها العامة، ولأنه كان من ألطفِ مَن خلقَ الله وكان هينًا لينًا، سألتُه: لماذا فضّلَ الشائعَ غيرَ الصحيح على النادر الصحيح؟! فأخبرني أنه من مدرسةٍ تُحبذ استخدامَ الشائع المألوفِ على الأذن عن الصحيح المهجور غيرِ المألوف لأذن المستمع.
ومن فَهمي لكلام أستاذنا _ رحمه الله _ أعتقد أنه أرادَ لغةً إخباريةً سلِسةً تُراعي المستمعَ من غير إخلالٍ ولا تفريط.
وتمر السنواتُ كحُلم، وفي إحدى جولاتي بين الصفحات الزرقاء الـ (Facebook) أرى أحدَ أبناء دفعتي يتألم من مستوى اللغة العربية، والفتكِ بأبسطِ قواعدِها ليلَ نهار على الشاشات التليفزيون ومحطات الراديو وصفحات السوشيال ميديا!! وكدتُ أمُرُّ على منشوره مرورَ الكرام، لولا الهولُ الذي رأيتُه من تعليقٍ كتبه أحدهم قائلًا: (الالتزام باللغة العربية الفصحى أمسى موضة قديمة، المستقبل لمن تنتقدهم بأسلوبهم الجديد، حاول مسايرة التطور)!! _ الحديث هنا لصاحب التعليق الفصيل _!!
صدمني التعليق، هل فعلا تحوَّلَ النقاشُ من اللجوءِ لخطأ شائع في حدودٍ ضيقة لجذب أذن المستمع أو المشاهد، إلى جدالٍ يرفض اللغةَ بقواعدها ونحوِها لأنها أصبحت (موضة قديمة)، وضربًا من التاريخ يجب التخلصُ منه لمُسايرة العصر الإعلامي الجديد؟! هل سيأتي علينا زمان _ ولعله أظلنا _ ينحو هؤلاءِ نحوًا مختلفًا غير ما تعلمناه، ونصبح بنظرهم حفريات؟!! الإجابة لن تكشفَ عنها الأيام، لأنها أمست جليةً في المذيعين معدومي الموهبة، والمراسلين (لِحَدّ ما تُفرج)، ومديري القنوات بنظام المعرفة والعلاقات، (والله يرحم النحو وسنينه)!!