حازم البهواشي يكتب: أجيالٌ بدونِ ذاكرة!!
حين يَكبَرُ المرءُ يبدأ في استرجاع الماضي، أو لعله في مسيرة حياته، يَحِنُّ دومًا إليه، ويَذْكُرُ _ خاصةً مع أقرانِه _ أيامَ الطفولة والصِّبا.
يتذكرُ أبناءُ جيلي (الكُتَّاب) إذ التحقوا به صغارًا، وإن لم يَستكملِ البعضُ المسيرة، لكنه عرفه.
ويتذكرُون أيامَ (الخَبِيز) حيث تجتمعُ نساءُ العائلة والجيران لصناعة الخُبْز (خَبْز العِيش) في الفُرن البلدي المصنوع من الطين اللَّبِن، وعمل الأرز المعَمَّر (الدَّس)، ويكون نصيبُ الصغير في هذا اليوم (أبُّورِيَّة بالسُّكر) أو (حِنِينَة) كما يُسميها البعض، ولعل التسميةَ جاءت من أنها تُبرز الحِنّيةَ على الصغير، وهي نوع من المخبوزات اللينة، محشوة بالسكر، يستمتع الصغيرُ بأكلِها ساخنةً وسْط النساء اللائي اجتمعن لصُنع العجين وتجهيزِه لدخول الفُرن، وقائدتِهم الأكثر مهارةً، التي تجلس أمام الفُرن مباشرةً، وهذا يحتاج إلى مواصفاتٍ خاصة؛ فليستْ كلُّ امرأةٍ تُشارك في (الخَبِيز) تستطيع الجلوسَ أمام الفُرن!! وأحيانًا يأخذ الصغيرُ (الحِنِينَة) ويَجري لمواصلةِ اللعِبِ مع أقرانِه، فيكون لهم نصيبٌ منها، أو يذهب أحدُهم إلى (قاعة الفُرن) ليحظَى بأخرى.
يتذكرُ أبناءُ جيلي اللعِبَ في الأراضي الفضاء، ومراكز الشباب المفتوحة، وملاعب المدارس المتاحة أمام الجميع وليس طلاب المدرسة فقط، إذ لم يكن هناك ما يُسمّى إيجار ملعب!!
يتذكر أبناءُ جيلي مسلسلات (الشهد والدموع) و (ليالي الحلمية) و (رأفت الهجان) و (دموع في عيون وقحة) و (أرابيسك) و (ذئاب الجبل) و (الضوء الشارد)، و (الوسية)، و (لا إله إلا الله)، و (الأمير المجهول أو هارون الرشيد) و (عمر بن عبد العزيز).
يتذكرون (أسامة أنور عكاشة)، و (صالح مرسي) و (محمد صفاء عامر) و (طاهر أبو فاشا) و (عبد السلام أمين) وموسيقى (عمار الشريعي)!!
يتذكر أبناءُ جيلي متابعةَ الآباء لتأدية الصلوات، وحين نخرج يومَ الجمعة من المسجد نجد حديثَ (الشعراوي) فتلتف حوله الأُسْرة، وتجتمع على الغَدَاء.
يتذكر أبناء جيلي حلقات وكتابات (مصطفى محمود)، والولد الشقي (محمود السعدني) ومقالات (مصطفى أمين) في عموده (فكرة)، و (أنيس منصور) في ( مواقف )، وصاحب (صندوق الدنيا) في الأهرام (أحمد بهجت)، وخالدته الإذاعية (كلمتين وبس) مع الفنان (فؤاد المهندس)، وروعة (أحمد رجب) في (1/2 كلمة)، وريشة (مصطفى حسين)، وحكايات بريد الجمعة للراحل الكبير (عبد الوهاب مطاوع)، ومسلسلات الإذاعة في رمضان وبرامجها المتنوعة الثرية التي تعطيك من كل بُستانٍ زهرة، وحكايات (أبلة فضيلة)، ونصائح (صفية المهندس)، و (لغتنا الجميلة) لـ (فاروق شوشة)، و (زيارة لمكتبة فلان) لـ (نادية صالح)، و (شاهد على العصر) لـ (عُمر بطيشة) و (كتابٌ عربيّ علَّمَ العالَم) لـ (أمين بسيوني)، وهي الحلَقاتُ التي كتبها (فوزي خضر) وأخرجها (مدحت زكي) ومثّلتْ رحلةً مع مشاعلِ الحضارة العربية والإسلامية التي أضاءت جنباتِ العالَم، و (قال الفيلسوف) لـ (سميرة عبد العزيز) و (سعد الغزاوي) والمخرج (إسلام فارس)، ورائعة (المسحراتي) التي أبدع فيها (سيد مكاوي) لحنًا وأداءً، و (فؤاد حداد) كلماتٍ، و (عبد المجيد شكري) إخراجًا، وغيرها.
أبناءُ جيلي كانوا حريصين على زيارة معرِض الكتاب في أرض المعارض بمدينة نصر، ومَن كان له حظ الإقامة في المدينة، كان للمتاحف والسينما نصيبٌ من وقته، تتسع فيها مداركه، ويطّلع على عوالمَ أخرى، أما أبناء الريف فيزورون المتاحف والسينمات في الرِّحْلات والإجازات لمن كان له أقاربُ في المدينة.
كل هذه الذكريات لم تُكَلِّفْ آباءَنا ماديًّا ولم تُمَثِّلْ عِبْئًا عليهم إلا ما ندَر، فكيف نُشَكِّلُ ذاكرةَ أبنائنا اليوم؟ وكيف وبمَ تتشكل؟! وماذا سيتذكرون عندما يكبرون؟! اصنعوا لأبنائكم ذاكرة، اجتمعوا مع أقاربهم _ دون تكلفة _ لزرع المودة والأُلفة وصلة الأرحام في نفوسهم، خذوهم إلى جذورهم، واجمعوهم بالناس، لا تتركوهم فريسةً للـ (تابلت) والألعاب الإلكترونية، فتكون كلُّ ذكرياتهم في المستقبل أنهم جلسوا إلى الـ (تابلت) بالساعات، وظلوا يلعبون حتى الصباح!!
معظمنا يعرف قولَ القائل: (لا تُكْرِهُوا أولادَكم على آثارِكم؛ فإنهم مخلوقون لزمانٍ غيرِ زمانِكم)، لكننا يجب أن ننتبهَ إلى ذاكرة أبنائنا، وما يدخلها اليوم ليتذكروه غدًا، بحيث تظل هُويتُنا حاضرةً فيما يستقبلونه ويتأثرون به ويتفاعلون معه، وإلا فإن ذاكرةَ أبنائِنا في خطر!!