مختار محمود يكتب: نهاية د.زكي نجيب محمود!!
يُوصف بأنه”فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة”. إنه الدكتور زكي نجيب محمود الذي عاش ين عامي 1905-1993. نجحَ الأكاديمي البارز في تقديم أعسر الأفكار على الهضم العقلي للقارئ العربي في عباراتٍ أدبيةٍ مُشرقةٍ، وفكَّ أصعبَ مسائل الفلسفة، وجعلَها في متناول قارئ الصحيفة اليومية. استطاع الفيلسوف المصري الكبير أن يُخرج الفلسفة من بطون الكتب وأروقة المعاهد والجامعات؛ لتؤدي دورها في الحياة، والأهمُّ من ذلك.. قدَّمَ صورة إيجابية عن تناغم الإسلام مع العلم، وأثبتَ –عمليًا- أن الذين يُخاصمون الأديان ويُعادونها، ويطالبون بحبسِها فى دور العبادة، إنما فى قلوبهم مرضٌ، فزادهم اللهُ مرضًا، ومثلُ هؤلاءِ وباءُ كلِّ عصر، لا يأمرون بمعروف، ولا يتناهون عن مُنكر، وإذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض، قالوا: إنما نحن مُصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون. وإذا قيل لهم: آمنوا كما آمن الناس، قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء؟ ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون.
ورغم أنه دعا فى بداية حياته العلمية، إلى إلغاء التراث العربي ورفضه رفضًا تامًا، وإلى سيادة العقل على النقل، كما طالب بتغيير سُلمِ القيم العربية؛ ليكونَ على غرار النمط الأوروبي، إلا أن الدكتور زكي نجيب محمود سرعان ما استنار قلبه وعقله وضميره، وعاد إليه رشدُه، فانقلبَ على جميع تلك الأفكار؛ ليدعوَ في مرحلة لاحقة إلى فلسفة جديدة برؤية عربية، تبدأ من الجذور، ولا تكتفي بها، بل نادى بتجديد الفكر العربي، وتوصل إلى أن الإسلام هو أكثرُ الديانات السماوية دعوةً إلى العلم والعقل والتعقل.
مرَّتْ الحياة الفكرية للفيلسوف المستنير بثلاثة أطوار رئيسية، حيث انشغلَ أثناءَ سفره إلى أوروبا في شبابه بنقد الحياة الاجتماعية في مصر، وتقديم نماذج من الفلسفة القديمة والحديثة والآداب التي تعبر عن الجانب التنويري. وخلال المرحلة الثانية، وتحديدًا مع عودته من أوروبا، وحتى الستينات من القرن العشرين، دعا إلى تغيير سُلَّم القِيم إلى النمط الأوروبي، والأخذ بحضارة الغرب وتمثلها بكل ما فيها؛ باعتبارها حضارة العصر؛ واشتمالها على جوانبَ إيجابيةٍ في مجال العلوم التجريبية والرياضية، ولها تقاليدُ في تقدير العلم، وفي الجدية في العمل واحترام إنسانية الإنسان، وهي “قيمٌ مُفتقدة” في العالم العربي. وفي هذه الفترة أيضًا.. دعا إلى الفلسفة الوضعية المنطقية، ونذر نفسَه لشرحها وتبسيطها، وهي فلسفة تدعو إلى سيادة منطق العقل، وإلى رفض التراث العربي وعدم الاعتداد به. وعبَّرت كتبه ـ التي ألفها في هذه الفترة ـ عن هذا الاتجاه مثل: “الفلسفة الوضعية” و”خرافة الميتافيزيقا”.
أمَّا المرحلة الفكرية الثالثة من حياة الدكتور زكي نجيب محمود، فقد شهدتْ عودته إلى التراث العربي قارئًا ومُنقِّبًا عن الأفكار الجديدة فيه، وباحثًا عن سِمات الهوية العربية التي تجمعُ بين الشرق والغرب، وبين الحدس والعقل، وبين الروح والمادة، وبين القِيم والعِلم. وهنا تبرز القيمة الفكرية والفلسفية للفيلسوف الراحل؛ باعتبارها الأكثر وضوحًا وتأثيرًا. ورغم ذلك فإن مَن يتحدثون عن زكي نجيب محمود يتغافلون عمدًا عن تلك الفترة، ويركزون فقط على فترة الشطط والافتنان بالغرب، كما يفعلون مع الدكتور طه حسين والدكتور عبد الرحمن بدوي؛ حيث يتقاطع الثلاثة في العودة إلى معسكر الإسلام في خواتيم حياتهم، والدفاع عنه ضد منتقديه وخصومه وأعدائه من الداخل والخارج!
فى هذه المرحلة، التى تُعتبرُ الأهمَّ والأبرزَ والأعظم أثرًا فى مسيرته العلمية والفكرية كما أسلفنا..توصل الدكتور زكي نجيب محمود إلى أنَّ تركَ التراث كله يُعتبر انتحارًا حضاريًّا؛ لأنَّ “التراث به لغتُنا وآدابُنا وقيمُنا وجهودُ علمائنا وأدبائنا وفلاسفتنا”، كما كان يتمنى “ألا نعيشَ عالة على غيرنا”، وإنما نشاركُ فى هذا العالم بـ”الأخذ والهضم والتمثيل ثم إعادة إفراز ما أخذناه، مثلما فعل المسلمون حينما أخذوا العلم والفلسفة الإغريقية، وهضموها ثم أفرزوها وزادوا عليها زياداتٍ مُهمة”.
اقتنع الدكتور زكي نجيب محمود بأنَّ السرَّ وراء تخلف العالم الإسلامى المعاصر، هو أنَّ أبناءه يكتفون بحفظ القرآن الكريم وترديده، دون العمل بما يشيرُ إليه من وجوب العلم بالكون وظواهره. وكان يؤمن أنه إذا أيقن المسلم أنَّ البحثَ فرضٌ دينىٌّ، لكانَ صاحبَ العلم وجبروته، ولكانَ من راكبي الصاروخ وغُزاة الفضاء، وأصحاب المصانع التى تأخذ من البلاد المتخلفة موادَّها الخامَ بأقلِّ ثمن، ثم تردُّها إليها مصنوعاتٍ بأغلى سعر، فيكونَ الثراءُ من نصيبه، والفقرُ من نصيب الآخرين، لكنَّ المسلمَ لم يعقلْ ذلك كله، وظنّ أنَّ العبادة وحدها هى الأمرُ الإلهىُّ، وهذا ما لم يدعُ الإسلامُ الصحيحُ إليه من قريبٍ أو بعيدٍ!!
وأخيرا.. يبقى سؤال مهم هو: هل كان الرجل علمانيًا؟
لقد صنّف بعضُ المعاصرين الدكتور زكي نجيب محمود، ضمن زُمرة العلمانيين؛ لحاجة خبيثة في نفوسهم الأمَّارة بالسوء، مرتكزين على المرحلة الأولى سالفة الذكر، وأنه بناء على هذا التصنيف فرّق بين الدنيا والدين، وبين الأرض والسماء، وبين الدولة والإسلام، وأن اهتمامه تركز فقط على العالم، وأخرج الدينَ من دائرة الاهتمام أو التأثير فى شئون الحياة وتنظيمها، وهذا محض كذب وافتراء وادعاء؛ لأن الأعمال بخواتيمها، والرجل انقلب على أفكاره الأولى وتمرد عليها تمامًا، وتبرأ منها وتطهر!
عند الدكتور زكي نجيب محمود.. كانتْ هذه الدعوة مقبولة فى المرحلة الأولى من فكره، ومُتسِقة مع تصوره بمعنى الحضارة والتقدم، في ظل انبهاره بالغرب؛ إذ كان ينادي فى هذه المرحلة بأنَّ الشرق لن يتقدمَ إلا إذا تخلصَ من كلِّ القديم، وأنْ يتخلى عن تراثه تمامًا، بل نادى بأنَّ علينا أن نلقىَ به فى النار، وأنْ نستمدَّ كلَّ أنظمتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من أوروبا؛ لأنه لا يوجدُ لدى العرب فى تاريخهم، السابق أو الحالي، ما يصنعُ هذا التقدمَ المنشودَ، وكانت دعوة العلمانية، بالمعنى الأوروبي، هى التصورُ الملائم لرؤية الفيلسوف الكبير، ثم حدث التحول الجذري والإيجابي فى فكره، كما أوضحنا. ومنذ ظهور كتابيه: “تجديد الفكر العربي”، و”المعقول واللامعقول فى تراثنا الفكري”، تغيرتْ هذه النغمة، وبعدَ أن كان الغرب، وحدَه، هو مصدر العقل والعلم والتحضر عند الفيلسوف الكبير، أخذ الرجلُ فى البحث عن ملامح هذا العقل فى تراثنا، وانتهى إلى أن” الإسلام هو أكثر الديانات السماوية دعوة إلى العلم والعقل والتعقل”. كان الفيلسوفُ الراحلُ يرى فى سيرته الأولى أن النموذج الكامل للحضارة هو النموذجُ الأوروبيُّ، ثم تراجعَ عن هذا فى مرحلته الثانية، ورأى أن هذا النموذج للحضارة الغربية هو نموذجٌ يسيرٌ على قدمٍ واحدةٍ، فهى حضارة عرجاءُ غيرُ كاملة؛ لأنها تهتم بالعلم والعالم، وتُنسى الإنسان بما يملك من وجدان وثقافة ودين، ونادى بالجمع بين الدين والعلم معًا كطرفين متلازمين لصنع الحضارة، فإذا استطاع الإنسان العربي المسلم المعاصر أن يجمع بين العلم والدين، وبين العقل والقلب، وبين الجسد والوجدان، وبين المادة والروح، وبين الدنيا والآخرة؛ فقد حقق الحضارة الكاملة، وصار إنسانًا تامًا. فهل يقرأ أدعياءُ التنوير ولصوصُ العلمانية وأفاعيها وغربانُها وبُومُها سيرة الدكتور زكي نجيب محمود ويستوعبونها جيدًا، ويتوقفون عن تسويق بضاعتهم الراكدة الخاسرة؛ طالما ظلَّ قوامُها الكذبَ والتدليسَ والتلفيقَ والتزويرَ والتزييفَ؟ّ!