مقالات الرأى

راندا الهادي تكتب : طَبخُ أمي

0:00

لماذا نحتفظ جميعًا في ذاكرتنا التذوقية بهذا الطعم الذي لا يُنسى ولا يتكرر إلا في حضور أمهاتنا؟!! لماذا رغم تجوالنا وعلاقاتنا التي تتشعب مع توالي الأيام ودورانها لا نجد له مثيلًا ؟!! ، هل هناك تعويذة ما ، أم خلطة سحرية لم تفك طلاسمها إلا الأم ، أم أننا عاجزون عن إيجاد المثيل حقًا مهما غلا الثمن أو تميز الطاهي ؟ .

قد يربط البعض التفسير لهذه القاعدة الراسخة عند غالبيتنا بالحنين لكل ما هو ماضٍ ، ببراءة الطفولة وسعادة تجريب الحواس لكل جديد ، فرحة المرة الأولى في كل شيء ، تمامًا مثل الحب الأول الذي لا يكتمل أبدًا ، هذه المشاعر البكر التي تخربش جدار القلب ، تاركة أثاراً لا يمحوها الزمان .

جميعها تفسيرات مقبولة غير أن الأقرب إلى قلبي هو تفسير لم أذكره بعد وهو البهارات الخاصة التي تضعها الأم ، ولا أقصد هنا صنفا من قائمة أعشاب الطبخ المعتادة بل بهارات غالية الثمن ، باهظة القيمة ، لا تقدر بالمال ، هي الحب . حبُ الأم الذي تصبه صباً لأبنائها فيما تفعله ، حتى الطهي ، فالأم تطهو بروحها ، تتمنى أن تُشبع الجميع وتسعدهم وترضيهم ، تتمنى أن تلمح السعادة في عيون أبنائها ، فهي تطهو بالحب لتحصل على الحب .

لا يهمها إن كان جسدها متعبًا أو يومها شاقًا أو تتألم ، بل تلقي كل هذا وراء ظهرها وتقف في الغالب بملابسها تعد وجبة الطعام لأبنائها ، ولا تتذكر ما مر من وقت وهي تتحرك جيئة وذهابًا حتى تكتمل المائدة ، ولا فرق هنا بين أم عاملة أو ربة منزل ، لأن الأم – من وجهة نظري – كلٌ ،لا يختلف وفقًا للظروف عند الحديث عن علاقتها بأبنائها ، وندعو لمن يتخلف عن هذه القاعدة بالهداية ،لأن الأمومة هبة ربانية إذا اختل أحد أعمدتها ضاعت الأسرة وتشوهت شخصية الأبناء إلى الأبد .

وإن كان حديث (الجنة تحت أقدام الأمهات) إسناده ضعيف كما قال الألباني -أحد علماء الحديث الشريف -، فهو حقيقة رسخها الإسلام بالمكانة العظيمة التي مكنها للأم ، ففي برها أجر يفوق الجهاد بالنفس ، وفي طاعتها رضى رب العالمين ، وفي سعادتها خير الدنيا والآخرة .

أمي … يا من طهوت لنا الحب أطباقًا عديدة ، لك الحب ، كلُ الحب الذي لا يجوز لغيرك من البشر .

زر الذهاب إلى الأعلى