مقالات الرأى

السيد خلاف يكتب : سياسة بعقل بارد

0:00

تبدو العلاقات المصرية-التركية اليوم كمن يسير فوق خيط دقيق بين الماضي والحاضر؛ بين إرث من الشكوك والهواجس، ورغبة متبادلة في فتح صفحة جديدة تُدار بعقل بارد ومنطق المصالح.

فبعد سنوات من الجفاء السياسي و الاصطفافات المتناقضة، تعود القاهرة وأنقرة إلى طاولة الشراكة، لا من باب العاطفة، بل من باب الحسابات الدقيقة والضرورات الإقليمية التي لا تحتمل العزلة.

بقدرة قادر تحولت العلاقة بين البلدين من القطيعة إلى إعادة التموضع بعد أن شهد العقد الأخير أحد أكثر الفصول توترًا في العلاقات بين البلدين، عقب ثورة 30 يونيو 2013، فقد
تحولت الخلافات السياسية إلى صراع مفتوح على النفوذ في الإقليم، من ليبيا إلى شرق المتوسط.

لكن مع تغيّر البيئة الدولية والإقليمية، واشتداد الضغوط الاقتصادية، أدرك الطرفان أن استمرار القطيعة يخصم من رصيدهما الإقليمي ويفتح المجال لقوى أخرى لملء الفراغ.

بدأت خطوات التقارب تدريجيًا عبر قنوات أمنية، ثم تحوّلت إلى حوارات سياسية ودبلوماسية، وجاءت اللقاءات بين الرئيس عبد الفتاح السيسي ونظيره التركي رجب طيب أردوغان لتُكرّس واقعًا جديدًا عنوانه “إدارة المصالح لا تصفية الحسابات”.

تدرك كل من القاهرة وأنقرة أن الخلافات، رغم عمقها، لا تلغي وجود مساحات ضخمة من المصالح المشتركة، ففي شرق المتوسط، تسعى تركيا للانخراط في منظومة الطاقة بدلًا من عزلها، بينما تفضّل مصر التهدئة وإعادة ضبط الإيقاع لصالح الاستقرار الإقليمي.

وفي غزة، تتلاقى الجهود المصرية-التركية في محاولات التهدئة واحتواء الكارثة الإنسانية، وإن اختلفت المقاربات ،أما في ليبيا، فقد تراجع الصدام العسكري لصالح تفاهم غير معلن يقوم على احترام مناطق النفوذ وتثبيت التوازن الميداني.

هذه الملفات رغم حساسيتها أصبحت ساحات للتفاهم أكثر منها ميادين صراع، لأن الطرفين اكتشفا أن إدارة الأزمات عبر التنسيق أقل كلفة من إدارتها عبر التنافس.

الاقتصاد هو المحرك الخفي لهذا التحوّل، فالتبادل التجاري بين مصر وتركيا تجاوز 10 مليارات دولار عام 2024، وتخطط الدولتان لرفعه إلى 15 مليارًا خلال السنوات الثلاث المقبلة، والشركات التركية تعمل في السوق المصرية باستثمارات تفوق 2.5 مليار دولار، وتُعدّ القاهرة بوابة رئيسية للمنتجات التركية نحو إفريقيا.

وفي المقابل، ترى مصر في تركيا شريكًا صناعيًا وتجاريًا قادرًا على نقل خبرات نوعية في مجالات النسيج والطاقة والمقاولات ، والواقع أن التقارب لا يعني تطابق الرؤى.
فالقاهرة لا تزال تنظر بحذر إلى السياسة التركية في سوريا والقرن الإفريقي، كما تراقب علاقة أنقرة مع جماعة الإخوان المسلمين رغم التهدئة الإعلامية.

وفي المقابل، تأمل تركيا أن تتطور العلاقة إلى مستوى التنسيق الأمني والسياسي، خصوصًا في ملفات المتوسط وغزة وليبيا ، بما يعني انها “مصالحة عقلانية” أكثر منها “تحالفًا عاطفيًا”؛ كلا البلدين يعرف أن الثقة لا تُمنح بل تُكتسب، وأن الطريق إلى الشراكة الحقيقية طويل ومتدرّج.

ويأتي انعقاد القمة الثانية لمجلس التعاون الاستراتيجي بين البلدين في القاهرة يمثل لحظة رمزية فارقة ، فهي المرة الأولى منذ أكثر من عقد التي تُدار فيها العلاقات على مستوى مؤسسي رفيع، بما يعبّر عن رغبة في تحويل التقارب السياسي إلى تعاون عملي ، وهذه القمة لا تعني فقط استعادة العلاقات، بل تؤسس لرؤية جديدة تقوم على مبدأ “الشراكة في إدارة الأزمات”، وليس “المنافسة على النفوذ”.

تنامي العلاقات بين البلدين هو انعكاس لتحوّل أعمق في معادلة الشرق الأوسط ، مع إدراك أن المنطقة تدخل مرحلة إعادة هندسة للتحالفات، وأن القوى التي تتمسك بالجمود ستجد نفسها خارج اللعبة .

ومهما تباينت المواقف، فإن مؤشرات الواقع تقول إن القاهرة وأنقرة تكتبان الآن فصلًا جديدًا من العلاقات المتوازنة، عنوانه الاحترام المتبادل والمصلحة المتبادلة، في زمن تتغيّر فيه خرائط القوة بسرعة لم يعرفها الشرق الأوسط منذ عقود.

زر الذهاب إلى الأعلى