مقالات الرأى

أحمد مجدي يكتب : السودان وما يحدث فيها نظرة موضوعية وتحليل شامل

0:00

في ربيع عام 2023، اندلع صراع داخلي في السودان بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع، وسرعان ما تحوّل إلى أزمة إنسانية وأمنية هي الأشد في تاريخ البلاد الحديث. ومع حلول عام 2025، أصبحت الأزمة أكثر تعقيداً واتساعاً، إذ تهاوت مؤسسات الدولة، وتفككت الأجهزة الأمنية، وتعمّقت الانقسامات الاجتماعية، حتى بات السودان يقف على حافة الانهيار الكامل.
تعود جذور الأزمة إلى فترة ما بعد سقوط نظام عمر البشير في عام 2019، حين حاولت البلاد الانتقال إلى الحكم المدني، لكن المرحلة الانتقالية كانت ضعيفة ومضطربة. تفاقم الخلاف بين المكوّن العسكري والمكوّن المدني، وتحوّل إلى صدام مباشر بين الجيش وقوات الدعم السريع التي كانت تُعد جزءاً من المنظومة الأمنية لكنها تطورت إلى قوة مستقلة ذات نفوذ اقتصادي وعسكري كبير. هذا الصراع لم يكن مجرد تنافس على السلطة، بل امتد إلى صراع على النفوذ والموارد والسيطرة على مفاصل الدولة.
في أبريل 2023، اشتعلت شرارة القتال في العاصمة الخرطوم قبل أن تمتد إلى أقاليم دارفور وكردفان والجزيرة، وتحوّلت المدن السودانية إلى ساحات حرب مفتوحة. ومع مرور الوقت، تمكّنت قوات الدعم السريع من السيطرة على أجزاء واسعة من البلاد، بينما تراجع نفوذ الجيش في مناطق أخرى. أحد أبرز التحولات كان انسحاب الجيش من مدينة الفاشر في دارفور، ما اعتبره المراقبون نقطة تحول خطيرة في مسار الحرب، إذ باتت قوات الدعم السريع تفرض سيطرة فعلية على إقليم كامل، الأمر الذي يهدد بوضع شبيه بالانقسام الفعلي للسودان.
تدهورت الأوضاع الإنسانية بشكل مأساوي، حيث تشير تقارير الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة إلى نزوح أكثر من 12 مليون شخص داخل السودان وخارجه، مع تفشي المجاعة في مناطق واسعة من دارفور والنيل الأزرق والخرطوم. البنية التحتية انهارت بالكامل، والمستشفيات أصبحت خارج الخدمة، والمياه والغذاء أصبحا نادرين. تفشت الأوبئة مثل الكوليرا نتيجة تلوث المياه وسوء الصرف الصحي، بينما توقفت المدارس والمؤسسات العامة عن العمل.
الصراع في السودان لا يمكن فصله عن السياق الدولي والإقليمي. فالمجتمع الدولي يحاول منذ أشهر إطلاق مسار تفاوضي لوقف القتال، لكن الخلافات بين الأطراف السودانية، وضعف الضغوط الفعلية من القوى الكبرى، جعلا كل المبادرات تتعثر. صدر قرار من مجلس الأمن الدولي بتوسيع العقوبات على الأطراف المتورطة في العنف، إلا أن هذه الإجراءات لم تغيّر الواقع على الأرض. أما الدول الإقليمية، مثل مصر وتشاد وإثيوبيا، فتنظر إلى الأزمة بقلق شديد لما تحمله من تداعيات على أمن الحدود وتدفقات اللاجئين واحتمالات تمدد الصراع.
يتضح من مسار الحرب أن الأزمة في جوهرها ليست فقط سياسية، بل هي أزمة دولة فقدت مركزيتها وهيبتها. فالتعددية المسلحة وتراجع مؤسسات الحكم جعلا من السودان ساحة مفتوحة لتصفية الحسابات الداخلية والإقليمية. يضاف إلى ذلك البعد الإثني في دارفور، حيث عاد العنف القديم بين القبائل ليطفو مجدداً، وهذه المرة على خلفية حرب وطنية أوسع. المشهد في دارفور يعكس تحولاً خطيراً من الصراع العسكري إلى حرب أهلية ذات طابع عرقي، وهو ما يزيد من صعوبة الوصول إلى تسوية شاملة.
الوضع الإنساني ينذر بكارثة كبرى، إذ يعيش الملايين بلا مأوى أو غذاء كافٍ، فيما تنشط تجارة السلاح والتهريب في ظل غياب الدولة. الاقتصاد السوداني انهار فعلياً، بعد توقف الإنتاج الزراعي والصناعي، وتراجع العملة المحلية، وارتفاع الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة. هذا الانهيار الاقتصادي يغذي بدوره استمرار الصراع، إذ يسعى كل طرف للسيطرة على ما تبقى من موارد البلاد لضمان بقائه.
على المستوى الدولي، يحاول بعض الوسطاء إعادة إطلاق مفاوضات جادة، لكن غياب الثقة بين الأطراف يعرقل أي تقدم حقيقي. فكل طرف يرى أن لديه فرصة لتعزيز مواقعه عسكرياً قبل الجلوس إلى طاولة التفاوض، ما يجعل من الهدنة الإنسانية أمراً صعب التحقيق. وفي الوقت نفسه، تزداد معاناة المدنيين الذين يقعون ضحية بين طرفين لا يعبآن بما يجري من كوارث يومية.
تداعيات هذا الصراع لا تتوقف عند حدود السودان. فالدول المجاورة، خصوصاً مصر وتشاد وجنوب السودان، تواجه ضغوطاً هائلة بسبب تدفق اللاجئين، واحتمال انتقال الجماعات المسلحة عبر الحدود. كما أن استمرار القتال يهدد الاستقرار في منطقة القرن الإفريقي بأكملها، ويزيد من مخاوف انتشار الفوضى والإرهاب في المنطقة.
إن مستقبل السودان بات مرهوناً بقدرة المجتمع الدولي والإقليمي على فرض وقف فوري لإطلاق النار، وإطلاق عملية سياسية شاملة لا تقتصر على الجيش والدعم السريع فقط، بل تشمل القوى المدنية والمجتمعية. كما يجب فتح ممرات إنسانية آمنة لوصول المساعدات دون قيود، وإعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس وطنية تضمن عدم تكرار التجربة الحالية.
وفي ظل هذا المشهد القاتم، يظل الأمل في أن يدرك السودانيون أنفسهم أن استمرار الحرب لن يفضي إلى نصر حقيقي لأي طرف، وأن الحل الوحيد يكمن في توافق وطني شامل يضع مصلحة الشعب فوق الحسابات السياسية والعسكرية. إن ما يجري في السودان اليوم ليس مجرد نزاع على السلطة، بل هو اختبار قاسٍ لقدرة دولة كانت يوماً ما من أكثر الدول وعداً في إفريقيا على أن تنهض من تحت الركام وتستعيد هويتها ووحدتها.
فما يحدث الآن هو انهيار لنموذج الدولة، وسقوطٌ في فخّ العنف والانقسام، وتحذيرٌ صريح لكل دول المنطقة من عواقب ترك الأزمات الداخلية تتفاقم دون حلول حقيقية. السودان اليوم يحتاج إلى أكثر من هدنة؛ يحتاج إلى مشروع وطني جامع، وإلى إرادة داخلية ترفض الحرب وتؤمن أن السلام ليس خياراً سياسياً فحسب، بل هو شرط لبقاء الوطن ذاته

زر الذهاب إلى الأعلى