مختار محمود يكتب: المنافق!
في الكيانات الهشة والمتقزمة والمتداعية يعظم دور المنافق، ويصبح وجوده فيها من لزوم ما يلزم. وربما يكون هذا ما دفع نيكولا ميكافيللي المُتوفَّى في العام 1527 ميلاديًا إلى أن يسجل في كتابه: “الأمير” هذه النصائح “الغاليات”!! ينصح “ميكافيللي” فخامة “الأمير” قائلاً: “احتفظ بأكبر عدد من المنافقين إلى جوارك، بل وشجع المبتدئين منهم على أن يتمرَّسوا على أفعال النفاق والمداهنة؛ لأنهم بمثابة جيشك الداخلي الذي يدافع عنك أمام الشعب باستماتة”!
لماذا يا سيد “ميكافيللي”؟ يجيب “ميكافيللي” قائلاً: “سيُباهون بحِكمتك حتى لو كنتَ أكبر الحمقى، ويدافعون عن أصلك الطيب حتى لو كنتَ من الوُضعاء، ويضعون ألف فلسفة لأقوالك التافهة، وسيعملون بكل همَّة على تبرير أحكامك وسياساتك العشوائية، ويُعظِّمون مُلكك، كلما أمعنتَ فى الظلم وبالغتَ فى الجِباية، ثم ألقِ لهم بعض الامتيازات التافهة التي تُشعرهم بتفوقهم عن باقي الشعب”.
“ميكافيللي” يُنبِّه “الأمير” إلى ضرورة تقنين علاقته بالمنافقين قائلاً: “ولكن احذر، لا تتخذ منهم خليلاً أو مُشيرًا لك، ولا تأخذ منهم مشورة أبدًا؛ لأن مشورتهم خادعة، ومُجالستهم ستجذبك فورًا إلى الوضاعة وتجلب لك العار”، مضيفًا: “ألقِ لهم الفتات باحتقار، ولا تُعلِ من قدر أحدهم، اجعل لهم سقفًا لا يتخطوَنه، وكن على يقين من أنهم سيُصبحون أكبر خطر يتهددك، وسيتحولون فى لحظة الى ألد أعدائك، إذا تهاوى مُلكك أو ضعُف سلطانك، أو ظهر مَن ينافسك بقوة على العرش، سيبيعونك فى لحظة لمَن يدفع أكثر، ويقدمون فروض الولاء والطاعة لمن يأتي من بعدك بدون لحظة أسفٍ على رحيلك، يجب عليك أيها الأمير أن تتعلم كيف تُفرق بين حُقراء القوم وأعزتهم”.
ورغم تحبيذه الاستئناس بالمنافقين والدفاع عنهم والتمكين لهم، غير إن “ميكافيللي” يتحامل في موضع آخر من الكتاب عليهم بقوله: المنافقون هم أحقر البشر، وقد أوجدتهم الطبيعة لخدمة الملك، كما أوجدت الكلاب لخدمة الراعي، وهم موجودون فى كل الممالك والسلاطين وحيثما يوجد الحاكم، وينامون على رصيف القصر”!
ويبدو “ميكافيللي” صادقًا في تأكيده على ديمومة المنافقين في كل زمان ومكان، فقد يكون المنافق سياسيًا أو شاعرًا أو كاتبًا، فهؤلاء هم وقود النفاق في كل وقت وحين، وسوف يظل التاريخ يحكي عن مدح “الفرزدق” لـ”الحجاج،” ثم هجائه بعد موته، وعندما سُئل الشاعر العربي الكبير عن السر وراء ذلك، أجاب بكل وضوح: “نكون مع العبد ما دام الله معه، فإنْ تخلَّى عنه تخلَّينا عنه”. كما سوف يبقى التاريخ مذهولاً أمام تجرؤ الشاعر الكبير “ابن هانيء” عندما مدح الخليفة الفاطمي حاكم مصر الإمام المعز لدين الله قائلاً: ما شئتَ لا ما شاءتِ الأقدارُ/ فاحكُمْ فأنتَ الواحد القهّارُ/ وكأنّما أنتَ النبىُّ محمّدٌ/ وكأنّما أنصاركَ الأنصارُ. ظل “ابن هانيء” يبالغ في إطرائه حاكم مصر حتى وصل إلى قوله: شرُفت بك الآفاقُ وانقسمت/ بك الأرزاقُ والآجالُ والأعمار! وهذه القصيدة تحديدًا وراء ابتداع المصريين المثل التاريخي الشهير: “أول القصيدة كُفر”؛ إذ هالهم أن الشاعر “المنافق” استهل قصيدته برفع الحاكم إلى درجة الذات الإلهية دون خجل أو وجل أو حياء. ويحفل التراث العربي بمواضع شتى من هذا النفاق الصارخ، لا سيما في العصر الأموي، حتى صار لكل عصر منافقوه الذين يتصدرون الصفوف تزييفًا وتلفيقًا وتدليسًا. وينافس رجال الدين، وليس علماؤه، الشعراء والكتَبة وأمثالهم في مضمار النفاق وتقنينه وشرعنته، وبعضهم حقق السبق، وتجاوز -من خلال توظيف الدين- النظرية الميكافيلية نفسها: “الغاية تبرر الوسيلة”، وفي رواية أخرى: “الغاية تبرر الرذيلة”!
ومع تعدد الوسائط في العصر الحديث.. تنوعت وسائل النفاق وأدواته وتوسعت وتطورت تطورًا كبيرًا ومذهلاً، وصار لكل منافق شرعته ومنهاجه في النفاق، وكثيرون حققوا مآربهم وأدركوا أهدافهم عبر أبواب النفاق وشرفاته ونوافذه وأنفاقه ودروبه، وبأقصر الطرق. وإن كان “ميكافيللي” مات قبل نحو 500 عام فإن أتباعه وأنساله ومريديه أبدًا لن يموتوا، وفي تكاثر وازدياد إلى يوم الدين.