محمد محمود عيسى يكتب: عمرنا كله سكر وزيت
مفيش حديث بين الناس كلها دلوقت إلا عن ارتفاع الأسعار والغلاء الفاحش المستمر وصراعات الناس مع التجار والبياعين واختفاء السلع وبيعها بأكثر من سعر في اليوم الواحد والمشكلة الظريفة والمحزنة جدا هو حديث الناس ومشكلتهم الكبيرة مع عدم توفر السكر وعدم وجوده في الأسواق ولو اتوجد سعره مرتفع جدا وفي أغلب الأوقات مش موجود
حكى لي أحد الأصدقاء أنه راح لواحد تاجر علشان يشتري منه سكر وبعد التعارف وتذكر الأموات والعشرة والجيرة الحلوة والعيش والملح قاله: أنا هديك كيلو سكر
بس هحطه لك في كيس أسود
ولو سمحت يا أستاذ تحطه جوه الجاكت علشان محدش يشوفه.
شوف السكر أصبح هاجس وحديث وخوف وقلق عند الناس أحسن يخلص من البيت ومنلقيش نشرب كوباية شاي أنا والعيال
شوف السكر وصلنا لحد فين
شوف السكر عمل ايه في الناس
رحت أنا وواحد جاري نزور أحد الأصدقاء وبعد ما قعدنا
سألنا: تشربوا إيه
قلنا: شاي
قال: كام معلقة سكر؟
قلت أنا : نص معلقة سكر (الراجل ابتسم وحسيت انه هياخدني بالحضن)
ورد صديقي: ثلاث معالق سكر (الراجل ذغر له وعينه طلعت شرار وحسيت انه هينط في كرشه وتمتم بكلمات كده تقريبا كان بيتحسبن في صديقي)
تخيل ان كوباية الشاي دي هيا رفاهية السواد الأعظم من الشعب المصري في ليالي الشتاء الباردة كوباية الشاي
تخيل ان كل التعب والعناء والشقاء ده يحصل في مزاج ورفاهية الناس دي كلها اللي هي عبارة عن كوباية الشاي بعد الفطار أو بعد الغداء أو بعد العشاء (وفيه ناس غنية وقادرة ومفترية بتشرب الشاي كمان وسط النهار وبين الوجبات) ملناش دخل بيهم دول هيتحاسبوا لوحديهم يوم القيامة
جاني الراجل الموظف اللي بيشوف العدادات نزلت فتحت له الباب ودخل شاف العدادات وسألته إيه الأخبار؟ عامل ايه؟ إيه أخبار الدنيا معاك
بص لي بأسى وحزن شديد وقال لي: عاجبك الغلاء وارتفاع الأسعار اللي احنا فيه؟
قلت له معلش إن شاء الله أزمة وتعدي
قال لي: أنا مرتبي 3200 جنيه وعندي بنتين في مدارس قولي أعمل إيه تخيل يا أستاذ أنا بقالي أكثر من عشرة أيام مفيش في بيتي حبة سكر واحدة مش لاقيه وغالي.
خرجت بالليل وأنا واقف أمام البيت عندي مر أحد الأصدقاء سلمت عليه وسألته السؤال التقليدي أخبارك إيه
أخباري إيه أديك شايف يابيه صراعات وخناقات في البيوت ومع العيال عندي على السكر والزيت والرز
السكر خلص عندنا في البيت ونزلت أدور عليه مش لاقي سكر ينفع كده
(قالي ينفع كده بلهجة حادة وغاضبه وهو يبنظر لي بلوم وعتاب ويقول لي علشان تنبسطوا يا بيه)
كل يوم بالليل بروح اشوف الحاجة أمي الغالية الحبيبة أسلم عليها وأطمن عليها وأقعد معاها شوية وارجع
وأنا راجع من عند الحاجة أمر على أحد الأسواق التجارية الكبيرة في شارع الجلاء أدخل بكل لطف والابتسامة تملأ وجهي وأنا أقول بكل شياكة
أخباركم إيه يا شباب
إيه أخبار السكر عندكم
لسه ما وصلكمش السكر
طيب يا شباب ما تنسوناش لما يوصلكم السكر
وأودعهم بنفس الابتسامة التي دخلت بها
وكمان كونت صداقة مع البائع في أحد الأسواق الشهيرة بجوار بيتي
ووصيته كمان على السكر واتصلت عليه في الإسراء والمعراج علشان أهنيه بالمناسبة وأذكره بالسكر
كنا الأسبوع الماضي في صالون الكاتب والمفكر الكبير الأستاذ جمال أسعد ووسط النقاشات الحادة والحوارات الجادة لقينا نفسنا كمان بنتكلم في السكر والرز واللحم والزيت وياترى الجزارين بكره هيبيعوا اللحمة بكام
تخيل اننا على اختلاف مستوياتنا الثقافية والتعليمية والمعيشية بيجمعنا السكر والرز والزيت والسكر موجود ولا مختفي ومين بيبعه بكام
تخيل ان بعد العمر ده وبعد المسافات والمشاوير الطويلة اللي قطعناها في مشوار الحياة والزمن نرجع نتكلم عن السكر والرز والزيت
تخيل ان المفروض واحنا قاعدين في صالون ثقافي المفروض ان يكون كل اهتمامنا قضايا ثقافية وسياسية كبيرة تدور في البلد أو الإقليم أو العالم وما أكثرها وأعقدها نتوقف علشان نتكلم في السكر والزيت
يااااااه سافرنا سنوات طويلة قضيناها في الغربة وشفنا هناك اهتمامات الناس ومشاغلهم ومشاكلهم اهتمامات الناس هناك مختلفة مفيش حاجة اسمها سكر ولا رز ولا زيت الناس هناك عدت حدود الأساسيات دي من سنين طويلة ودلوقت كمان عدت حدود الرفاهيات
ياترى هنقعد طول عمرنا واحنا مشاغلنا ومشاكلنا وقلقنا وخوفنا السكر والزيت
هو احنا مش هنعدي المرحلة دي أبدا ولا ممكن يجي علينا يوم ممكن نتخطاها ونتكلم في حاجات تانية غير السكر والزيت
هو احنا بعد الأحلام والأمنيات والطموحات والخروجات والمعارك والثورات نوصل تاني للسكر والزيت.
هو احنا لو حبينا نقيس عمرنا دلوقت نقيسه بكام أزمة سكر وزيت عدت علينا ومرينا بيها
ياترى هتكون ذكرياتنا كلها محصورة في السكر والزيت
هو اللي جاي من العمر قد اللي راح
واللي جاي من العمر واللي ربنا وحده أعلم بيه كمان هنقضيه واحنا بنجري ورا السكر والرز والزيت
ولا عمرنا كله هنا بقى سكر وزيت