مقالات الرأى

الاستاذة الدكتورة غادة عامر تكتب : مخاطر الذكاء الاصطناعي على المعتقدات الدينية

سابقا كانت تعتمد الخطب الدينية في كل الديانات على تراكم المعرفة وعمقها والقدرة على التحليل النصي الدقيق والعلم الوفير، جنبًا إلى جنب مع الكاريزما الفريدة والخبرات لكل رجل دين (شيخ أو كاهن أو قسيس). فكتابة الخطبة تعتبر فنًا. لكن ومع تقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي ChatGPT اكتشف القساوسة والحاخامات والشيوخ وجميع الواعظين أن هذه التقنية لديها قدرة خطيرة ليس فقط على كتابة مقالات ونشرها وإلقائها، ولكن أيضا في إنشاء خطبة دينية، والتي تعتبر حجر الزاوية لجميع الأديان والشرائع!
إن رؤية وسماع جهاز كمبيوتر أو روبوت أو أي آلة تقوم فعل ذلك -كتابة خطبة دينية- والأغرب والأخطر والأهم في ثوانٍ معدودة، قد دفع القادة الدينيين إلى مواجهة مشكلة خطيرة وهي: هل يستطيع الذكاء الاصطناعي خلق رسالة روحية إنسانية، أو التغيير أو التلاعب ببعض النصوص المقدسة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل الكمبيوتر جيد إلى هذا الحد، أم أن الخطب الدينية التي يقوم بها البشر تحتاج إلى الكثير من العمل والتطوير والابتكار؟
في ديسمبر 2022م ألقى الحاخام “جوشوا فرانكلين” رسالة -غير عادية- خلال قداس في المركز اليهودي في هامبتونز في نيويورك، حيث قال للحضور “سوف أقوم بسرقة خطبة”، “وعليكم أن تخمنوا من كتبها.” وكانت الخطبة متعمقة جدا في جزء ليس سهل التعمق فيه من التوراة يطلق عليه “إضاءة باراشات فايجاش” -وهو جزء من التوراة يحكي قصة المصالحة بين الإخوة- وبعد إلقاء الخطبة كشف الحاخام أن الخطبة كتبت بالذكاء الاصطناعي التوليدي. فحدثت صدمة لمعظم الحضور، وقال الحاخام رغم إنه مذهل لكنني مرعوب !
لقد تم استخدام الذكاء الاصطناعي بالفعل في زيادة الوصول إلى الممارسات الدينية، فقد صمم غابرييل تروفاتو المخترع الإيطالي روبوت أطلق عليه اسم “القديس” SanTO يمكنه قراءة الكتاب المقدس، واقتراح الصلوات، واقتباس مقاطع من الكتاب المقدس تتعلق بموضوعات العقيدة الكاثوليكية، وحتى رواية حياة قديس اليوم. وقد صممه لرعاية كبار السن ذوي القدرة المحدودة على الحركة والاتصال الاجتماعي، حيث استفاد منه كبار السن الذين يعيشون بمفردهم وبعيدًا عن اسرهم، أو الذين يعيشون في أماكن ريفية ولا يوجد فيها واعظ ديني. كذلك استخدم المصلين اليابانيين كاهن يُدعى “ميندار” يقف في معبد “كوداجي” (Kodaiji)، وهو معبد بوذي عمره 400 عام في كيوتو باليابان. مثل غيره من رجال الدين، يمكن لهذا الكاهن الروبوت إلقاء الخطب والتنقل للتواصل مع المصلين. صُمِّم هذا الروبوت -الذي تبلغ تكلفته مليون دولار- ليبدو مثل “كانون”، إله الرحمة البوذي. في الوقت الحالي، لا يعمل “ميندار” عبر الذكاء الاصطناعي، فهو يقرأ فقط الخطبة نفسها المبرمَجة سابقا حول “السوترا” (النصوص الدينية الهندية القديمة) مرارا وتكرارا. لكنَّ صانعي الروبوت يقولون إنهم يُخطِّطون لمنحه إمكانات التعلم الآلي التي ستُمكِّنه من استيعاب المشكلات الروحية والأخلاقية المحددة للمصلين، وإطلاق ملاحظات حولها. “هذا الروبوت لن يموت أبدا”؛ هكذا يقول تينشو جوتو، كبير مضيفي المعبد، مُضيفا: “سوف يستمر في تحديث نفسه ويتطور. ومع الذكاء الاصطناعي، نأمل أن تنمو حكمته لمساعدة الناس على التغلُّب حتى على أصعب المشكلات. إنه يُغيِّر البوذية إيجابيا” هكذا يقول كبير مضيفي المعبد!
وفي العصور الوسطى، صمم المسيحيون آلات آلية لأداء أسرار عيد الفصح وعيد الميلاد. حيث قام أحد علماء الروبوتات الأولية في القرن السادس عشر بتصميم راهب ميكانيكي يقوم، بشكل مثير للدهشة، بإيماءات طقوسية حتى يومنا هذا، بذراعه اليمنى يضرب صدره في اعتراف بالذنب، بيساره يرفع مسبحة على شفتيه. وبعبارة أخرى، فإن الحداثة الحقيقية ليست في استخدام الروبوتات في المجال الديني، بل في استخدام الذكاء الاصطناعي، خاصة الذكاء الاصطناعي التوليدي.
مع بدء المزيد من المجتمعات الدينية في دمج الروبوتات – في بعض الحالات، مدعومة بالذكاء الاصطناعي وفي حالات أخرى، لا – فإن ذلك من شأنه أن يغير الطريقة التي يختبر بها الناس الإيمان. وقد يغير أيضًا كيفية انخراطنا في التفكير الأخلاقي وصنع القرار، وهو جزء كبير من الدين. بالنسبة للمؤيدين يقولون أن هناك الكثير من الإمكانات الإيجابية حيث يمكن للروبوتات إثارة فضول الأشخاص غير المهتمين بالدين أو السماح بأداء طقوس عندما يتعذر الوصول إلى كاهن بشري. وكذلك يضيفون يمكن للتطورات في الذكاء الاصطناعي، مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي، أن تغير ممارساتنا وفهمنا للدين بشكل جذري من خلال الذهاب إلى ما هو أبعد من ترديد النصوص المقدسة التي تناسب الكلمات الرئيسية التي تسمعها. ويقول الرافضون أن الروبوتات تشكل أيضًا مخاطر على الدين ، على سبيل المثال، من خلال جعله يبدو آليًا أو متجانسًا للغاية، أو من خلال تحدي المبادئ الأساسية للاهوت.
أنا اعتقد أن نموذج اللغة مثل الذكاء الاصطناعي التوليدي يمكن أن يكتب خطبة جيدة، إلا أنه لا يمكنه تكرار التجربة الكاملة للخطبة الحية التي يلقيها واعظ بشري. لإن العنصر البشري له صفات إنسانية في الوعظ، بما في ذلك نبرة الصوت، والتعبير العاطفي، وتفاعل الجمهور، وهو جزء مهم من تجربة الوعظ التي لا يمكن لنموذج اللغة أن يكررها أو أن يقدمها إلى الآن! فتقنية الذكاء الاصطناعي التوليدي عبارة عن خوارزميات تعلم عميقة تسمى الشبكة العصبية المحولة، يتم تدريبها على مجموعة ضخمة من البيانات النصية من الإنترنت والكتب والمصادر الأخرى. أثناء التدريب، يتعلم النموذج كيفية تحديد الأنماط في البيانات واستخدامها لإنشاء نص يشبه اللغة البشرية بشكل خطير وسريع. وبالتأكيد تفتقر خطب الذكاء الاصطناعي إلى الإنسانية الأساسية. إذا تمكنوا من إنتاج شيء يمكن أن يمثل رسالة فعلية لشخص ما، فربما يفتقر هذا أيضًا إلى الإنسانية الأساسية. وبغض النظر عما يمكن أن يخلقه، هناك عنصر آخر من الخطاب الديني القوي الذي يعلم الذكاء الاصطناعي أنه سيفتقده دائمًا: إنسان حقيقي لتوصيل الرسالة.
هناك خطر آخر يتعلق بكيفية تعامل كاهن الذكاء الاصطناعي مع الاستفسارات الأخلاقية وصنع القرار. إن الروبوتات التي تتعلم خوارزمياتها من البيانات السابقة قد تدفعنا نحو اتخاذ قرارات مبنية على ما فعله الناس في الماضي، مما يؤدي إلى تجانس الإجابات على استفساراتنا بشكل تدريجي وتضييق نطاق خيالنا الروحي. كذلك إن أنظمة الذكاء الاصطناعي يمكن أن تكون مشكلة يصعب تتبع أداؤها لأنها غالبا ما تعمل كصناديق سوداء. كذلك نحن عادة لا نعرف ما هي أنواع التحيزات التي يتم ترميزها فيها أو ما هي أنواع الفروق البشرية الدقيقة والسياق الذي فشلوا في فهمه. في نهاية المطاف، في الدين كما هو الحال في المجالات الأخرى، ربما يكون من الأفضل فهم الروبوتات والبشر ليس كمنافسين، ولكن كمتعاونين. كل منهما يقدم شيئا يفتقر إليه الآخر. للأسف نحن – البشر- نميل إلى التفكير في إطار إما/أو إما نحن أو الروبوتات. لكن الأمر يتعلق بالشراكة وليس بالاستبدال، ويمكن أن تكون علاقة تكافلية، إذا تعاملنا معها بهذه الطريقة.
على العموم، هل الذكاء الاصطناعي سيجعلنا أفضل أم أسوأ حالا خاصة فيما يتعلق بالأمور العقائدية؟ من وجهة نظري، تعتمد الإجابة على كيفية تصميمنا لها ونشرها، وعلى من تسأل وعلى البيانات التي تستند إليها في تغذيتها.
أ.د. غادة محمد عامر
عميد كلية الهندسة – جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا
زميل ومحاضر الاكاديمية العسكرية للدراسات العليا والاستراتيجية

زر الذهاب إلى الأعلى