حازم عبده يكتب: دعوة للهجرة
نعيش هذه الأيام أجواء الحدث الأعظم في بناء دولة الإسلام، ورفع راية “لا إله إلا الله محمد رسول الله” في الوجود كله تلك، الراية التي حلقت في سماء الدنيا بالهجرة النبوية الشريفة من ديار الظلم والشرك والنكران، من أهل مكة في ذلك الزمان، إلى مأرز الإيمان، المدينة المنورة،على الرغم مما كان لمكة من مكانة عظيمة في قلب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فهي القائل فيها: “والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت”
شاءت إرادة الله أن تتم الهجرة النبوية الشريفية بظروفها ومشقتها ومعجزاتها ورفقتها مع الصديق أبي بكر، رضي الله عنه وأرضاه، وما قدمته ابنته أسماء رضى الله عنها، وما ضحى به الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وما ضربه أهل المدينة الأطهار الأنصار من تضحية وفداء وإيثار في استقبال رسول الله، صلى الله عليه وسلم وصحبه الأخيار، حتى استوت الدعوة على سوقها، و استغلظ بناء الدولة وانطلقت الرسالة الخاتمة إلى ربوع جزيرة العرب وما وراءها.
ولم يزل سيّد الكونين منتصباً لدعوة الدّين لم يفتر ولم يجم، يستقبل النّاس في بدوٍ وفى حضرٍ وينشر الدّين في سهلٍ وفى علم، حتّى استجابت له الأنصار واعتصموا بحبله عن تراضٍ خير معتصم.(“الهجرة الكبرى” -محمود سامي البارودي)
صلى الله عليك يا علم الهدى ما أحوجنا للهجرة في هذه الأيام الحالكة التي اختلط حابلها بنابلها وتوسدت فيها رسل الطاعون سنام الأمر ومفاصله، كثيرة تلك هي الكوارث والمجاعات والحروب والفتن والأزمات التي مرت بها الأمة الإسلامية عبر تاريخها وكلها كانت ظروفاً استثنائية لا تستثني أحداً، أما أزمتنا الراهنة فهي أزمة ليست مادية فحسب أو نتاج كوارث أو حروب وإنما هي نتاج انحراف عن منهج صاحب الهجرة وإعراض عن ذكر الله.
إن الأزمة الأخلاقية التي تعصف بالأمة هي أخطر أزماتها، أزمة قطعت الأرحام، ونزعت الرحمة، وصنعت بيئة خصبة لكل أمراض النفوس البشرية، وصارت كل علاقاتنا سلعة للبيع والشراء فلا مودة ولا رحمة، بل سلوكيات وحوش ضارية تفترس ليس من أجل سد الجوع وإنما من أجل الافتراس في حد ذاته، فهل يعقل كل هذه الجرائم المجتمعية بين الأسرة الواحدة وبين الجيران وزملاء العمل وبين الأقارب.
أي رحمة تتنزل علينا وأي بلاء يرفع عنا ونحن ننهش بعضنا بعضاً، ولا نقدم لبعضنا أفراداً ودولاً سوى الأذى، والكيد والدس والمكر، لذا فمن الطبيعي جداً أن يتداعى علينا الأكلة وتعم الابتلاءات وتحبط أعمالنا ونصبح في ذيل الأمم عالة عليها ننتظر الأمم الأخرى حتى تنتج لنا طعامنا وكساءنا وسلاحنا و دواءنا.
لا يليق بنا أن نحتفل بعام هجري جديد( 1445ه) ونحن على هذه الحال، دون عظة أو عبرة، دون مبادرة أو خطوة لمراجعة ما وصلنا إليه، دون التماس منهج صاحب الهجرة، صلى الله عليه وسلم، وكيف أسس لنشر الدعوة وبناء الدولة، ببناء مجتمع المؤاخاة والإيثار، وتربية رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، لإعلاء كلمة الحق في بيئة تتسع لجميع العقول، يتساوى فيها الجميع لا فرق بينهم إلا بالتقوى والعمل الصالح، بيئة التواد والتراحم، بيئة لا تعرف المغالاة ولا التشدد والتعالي، بيئة تؤمن بأن لا إله إلا الله محمد رسول الله وأن الحياة لحظة عابرة نقف بعدها عراة من زخرف الحياة وزينتها أمام الحق الحكم العدل.