ناصر عراق يكتب: جمهور أم كلثوم..المحظوظ جدًا
لا ريب عندي في أن من أكثر الناس الذين تذوقوا عسل السعادة هم أولئك الذين حضروا حفلات أم كلثوم على المسرح، حيث رأى كل واحد منهم السيدة العظيمة رأي العين، وحيث تلقى كل واحد منهم صوتها المعجز مباشرة دون وسيط تكنولوجي، وحيث تفاعل معها وانفعل بأدائها في التو واللحظة. حقا… كم كان محظوظا ذلك الجمهور.
أجل… تمر غدًا 3 فبراير 48 سنة على رحيل كوكب الشرق، لكن لا الزمن ولا الناس ولا الفن يقبل بغيابها أبدًا، فهي حاضرة بقوة من قرن إلى آخر، فصوتها المذهل يتجلى في كل مكان، في المشرق وفي المغرب… في الإذاعة والتليفزيون، في الكاسيت وفي السيارة… في يوتيوب وفيسبوك وإنستجرام. وقد سمعتها في كل دولة عربية وأجنبية وهبتني المقادير نعمة زيارتها. سمعتها وانفعلت بها في مقاهي القاهرة ودبي وصنعاء والرباط وتونس والجزائر وبيروت وبغداد وعمّان ومسقط والمنامة والدوحة وباريس ولندن وباكو وموسكو… وسيؤول.
نعم سيؤول عاصمة كوريا الجنوبية.
تخيل أن المكان العربي الوحيد القائم في كوريا الجنوبية عام 2006، حين طرت إلى سيؤول، كان مقهى عربيًا يملكه ويديره شاب مغربي نشيط وذكي، فلما طلبت زيارته، واصطحبوني إليه، استقبلت مسامعي على مدخل المقهى كوكب الشرق وهي تترنم (وحشني وأنت قصاد عيني)، ذلك المقطع الآسر من أغنية (أنت الحب) التي شدت بها عام 1965، وهي من ألحان الموسيقار الأعظم محمد عبدالوهاب.
لقد وصفها هذا العبقري الفذ بعبارة صائبة تمامًا حين قال للنجم سمير صبري في برنامج (النادي الدولي) عام 1975، بعد رحيل أم كلثوم بأسابيع قليلة: (إنها صاحبة الصوت الذي لا يعرف المستحيل). ومعه الحق كله، فالمستمع الحصيف يتعجب من القدرات الصوتية الخارقة التي تحوزها صاحبة (الأطلال)، وينتشي مع كل وثبة من وثبات أدائها البديع.
في الأيام الخوالي، جلس الجمهور المحظوظ في قاعة المسرح لا تحول بينه وبين السيدة ام كلثوم أية حواجز، فهو يراها بشحمها ولحمها وفستانها وزينتها ومنديلها الشهير، بعكس من ينصت إليها من خلال الراديو، حيث لا يحظى من أم كلثوم إلا بالصوت فقط عبر جهاز من حديد وخشب كما كانت هيئة الراديو قديمًا.
لذا يغدو جمهور المسرح في حالة تأهب تام لاستقبال أية حركة أو لفتة أو إشارة من أم كلثوم تزيد أداءها اشتعالا، فضلا عن أن هذا الجمهور ينعم بفضيلة الإصغاء التام نظرًا لوجوده في حضرة صاحبة الحنجرة الماسية، ما يوفر له فرصة ذهبية لالتقاط الذبذبات المتباينة والانفعالات المختلفة في أداء أم كلثوم بما يتناسب مع مناخ الأغنية التي تشدو بها.
سأقدم لك بعض الأمثلة، وهي كثيرة جدًا، التي يتألق فيها الجمهور. خذ عندك: في (الأطلال 1965) ينفجر الجمهور مهللا حين تصدح (أعطني حريتي اطلق يديا)، وفي أغنية (يا طول عذابي 1938) يهلل الجمهور مبهورًا عندما تهمس بكلمة (ساعة) في المقطع التالي (وقلت أصور له هنايا ساعة ما أشوفه ويايا)، حيث تنطلق فجأة عصافير الفرحة من الصوت الاستثنائي مع كلمة (ساعة) هذه.
أما في أغنية (حبيبي يسعد أوقاته 1944)، فيصل مستوى ذكاء الجمهور وتمتعه بكل إشارة من كوكب الشرق إلى مكانة غير مسبوقة، وها هي الجملة الشهيرة (الليلة عيد… ع الدنيا سعيد) تكشف حجم انتشاء الجمهور وذوبانه في بحر الأداء العجيب لأم كلثوم.
وأما في (جددت حبك ليه 1952)، فيبدو الجمهور على أتم الاستعداد للتجاوب مع جميع انفعالات سيدته العظيمة، ولعلك لاحظت مدى الابتهاج الذي يغمر الجمهور، وأم كلثوم، في وقت واحد حين تصل إلى (أنت ظالمني… وأنا راضي)!.
كما قلت قبل قليل، فالأمثلة كثيرة جدًا، لذا اسمح لي أن أذكرك ببعض أغنياتها الباذخة لتتابع بنفسك: (رق الحبيب/ سهران لوحدي/ هلت ليالي القمر/ حلم/ أهل الهوى/ الآهات/ دليلي احتار/ يا اللي كان يشجيك أنيني/ الأولة في الغرام/ هو صحيح الهوى غلاب/ الحب كده/ أنت عمري/ أنت الحب/ أمل حياتي/ فكروني/ هذه ليلتي/ ألف ليلة وليلة/ سيرة الحب/ فات الميعاد/ أقبل الليل/ غني لي شوي شوي” الحفلة”) وغيرها عشرات من الأغنيات العابرة للعصور.
إن الأداء المذهل لصاحبة (مصر التي في خاطري) لا يمكن أن يبلغ المستوى المعجز هذا لولا الاستجابة الفورية من قبل الجمهور، بمعنى أنها كلما توهج أداؤها انتشى الجمهور وغمرها بامتنانه وصيحاته، ما يجعلها تبلغ مدى أعمق في الأداء في الجملة التالية، أو إعادة الجملة نفسها.
هكذا إذن تشكلت بشكل طبيعي العلاقة الجدلية التي تغذيها حرارة التواصل بين صاحبة الصوت الساحر وبين جمهور أنعم عليه الزمان بحضور حفلاتها الحية.
صحيح أن المقادير حرمتني من حضور أية حفلة لها، فقد رحلت في 3 فبراير 1975، أي وأنا في الرابعة عشرة من عمري، غير أنني أجد لذة كبرى حين أصغي إليها الآن وأنتبه إلى ردود أفعال جمهور تلك الأيام، وأتساءل متعجبًا: كيف احتمل ذلك الجمهور كل هذه النشوة وكل ذاك الطرب في حفلة واحدة؟.
أذكر جيدًا يوم وفاتها، إذ عاد والدي من عمله في الثالثة والنصف عصرًا كالمعتاد، فلما أعدت والدتي له الطعام، أشار بيده رافضا، راجيًا منها أن ترفعه، وقال بنبرات تشع بأسي شديد مازال يتردد صداه في نفسي: (الست ماتت، مفيش نفس للأكل).
نعم… ام كلثوم أهم امرأة مصرية وعربية على مدار العصور من حيث تأثيرها الجبار على وجدان الملايين، فهي سيدة القرون كلها… ونعم السيدة.