مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: أبو حنيفة الإمام الأول

0:00

في مطلع الشهر الجاري..حلَّت ذكرى ميلاد الإمام أبي حنيفة النعمان الذي عاش بين عامي 696 -767 ميلاديًا، وعامي 80-150 هجريًا، وهو صاحب المذهب الحنفي المنتشر في عديد من الأقطار والبلدان الإسلامية، ومن بينها: مصر. يُوصَفُ “أبو حنيفة” بأنه “الإمام الأول”؛ حيث عاصر عددًا من صحابة الرسول الكريم، مُتقدمًا بذلك على الأئمة الثلاثة: مالك بن أنس والإمام الشافعي وأحمد بن حنبل، رضي الله عنهم جميعًا. أتمَّ “أبو حنيفة” حِفظ القرآن الكريم في سِنٍّ مُبكرة، وكان يعيش فى مجتمع متعدد الثقافات يضم العرب والفُرس وأبناء خُراسان، وبلاد ما وراء النهر؛ ما أصقل شخصيته وثقافته ووعيه وإدراكه. آلت رئاسة حلقة الفقه في الكوفة إلى “أبي حنيفة”، وهو في الأربعين من عمره، والتفّ حوله تلاميذُه ينهلون من علمه وفقهه.
كانت لـ”أبي حنيفة” طريقة مُبتكرة في حل المسائل والقضايا التي كانت تُطرح في حَلقته؛ فلم يكن يعمد إلى حلها مباشرة، وإنما كان يطرحُها على تلاميذه، ليُدليَ كلٌّ منهم برأيه فيها، ويُعضّد ما يقول بدليل، ثم يُعقّبُ هو على رأيهم، ويُصوّب ما يراه صائبًا، حتى تُقتلَ القضية بحثًا، ويجتمع “أبو حنيفة” وتلاميذه على رأي واحدٍ يقررونه جميعًا.
اعتمد “أبو حنيفة” منهجًا مستقلاً في الاجتهاد، وطريقة خاصة في استنباط الأحكام التي لا تقف عند ظاهر النصوص، بل تغوصُ في المعاني التي تشير إليها، وتتعمق في مقاصدها وغاياتها. لا يعني اشتهارُ “أبي حنيفة” بالقول بالرأي والإكثار من القياس أنه أهمل الأخذ بالأحاديث والآثار، أو أنه قليل البضاعة فيها، كما يقول بعض المُرجفين والمُغرضين، بل كان يشترط في قبول الحديث شروطًا متشددة مبالغة في التحري والضبط، والتأكد من صحة نسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. هذا التشدد في قبول الحديث هو ما حَمَلَ “أبا حنيفة” على التوسُّع في تفسير ما صحَّ عنده منها، والإكثار من القياس عليها؛ حتى يُواجِهَ النوازل والمشكلات المتجددة.
لم يقف اجتهادُ “أبي حنيفة” عند المسائل التي تُعرضُ عليه أو التي تحدث في زمنه فقط، بل كان يفترض المسائل التي لم تقع ويُقلّبها على جميع وجوهها، ثم يستنبط لها أحكامًا، وهو ما يُسمى بـ”الفقه التقديري”. وضع “أبو حنيفة” ثلاثًة وثمانين ألفَ مسألةٍ فى الفقه الإسلامي، منها ثمانية وثلاثون ألفًا، هي أصلُ العبادات، وخمسة وأربعون ألف مسألة هي أصل المعاملات. كان “أبو حنيفة” يُكثرُ من أداء فريضة الحج حتى قيل: إنه حجَّ 55 مرة، وقد مكَّنته هذه الرحلاتُ الرُّوحانية المتصلة إلى بيت الله الحرام من أن يلتقيَ كبار الفقهاء والحفّاظ، يُدارسهم ويروي عنهم، ويصل بعض المؤرخين بشيوخ “أبي حنيفة” إلى أربعة آلاف شيخ.
أمدَّ اللهُ في عُمر “أبي حنيفة”، ورزقه القبولَ، وهيَّأ له مِن التلاميذ النابهين مَن حملوا مذهبه ومكّنوا له، وأقرَّ له معاصروه بـ”السبق والتقدم”. قال النضر بن شميل عنه: “كان الناس نيامًا عن الفقه حتى أيقظهم أبو حنيفة بما فتقه وبيّنه”. ووصفه الإمام الشافعي بقوله: “الناسُ في الفقه عيالٌ على أبي حنيفة”. وقال عنه فضيل بن عياض: “كان أبو حنيفة فقيهًا معروفًا بالفقه، مشهورًا بالورع، واسع المال، معروفًا بالأفضال على كل من يطيف به، صبورًا على تعليم العلم بالليل والنهار، حسن الليل، كثير الصمت، قليل الكلام حتى ترد مسألة في حلال أو حرام، فكان يُحسن أن يدل على الحق، هاربًا من مال السلطان”. وقال عنه تلميذه عبد الله بن المبارك: “أبو حنيفة مُخُّ العلم”. ووصفه مُعاصره مليح بن وكيع: “كان أبو حنيفة عظيم الأمانة، وكان فى قلبه جليلاً كبيرًا عظيمًا، وكان يؤثر رضا ربه على كل شئ، ولو أخذته السيوفُ فى الله لاحتمل”.
تُوفِّي “أبو حنيفة” في بغداد بعد أن ملأ الدنيا عِلمًا وشغل الناس، وامتدَّ مذهبه الفقهي وانتشر بين عديد من البلدان الإسلامية ومن بينها: مصر، بدءًا من العام 146 هجريًا.
قبل 27 عامًا..أنتج التليفزيون المصري مسلسلاً عن الإمام “أبي حنيفة”، عندما كان هناك اهتمامٌ جادٌّ بالدراما الدينية، قبل أن يدور الزمان دورته ويتوقف إنتاج الدراما الدينية تمامًا؛ ليس فقط لأسباب مالية وإعلانية، ولكن خضوعًا لحملاتٍ مُغرضةٍ ترفض الاحتفاء بأيٍّ من علماء وأبطال الإسلام المغاوير، كما حدث مع مشروع مسلسل “خالد بن الوليد” الذي تم إلغاؤه قبل أن يبدأ، في مقابل الضغط حاليًا من أجل التمكين لأعمال فنية تخريبية مثل: فيلم “الملحد” لإبراهيم عيسى وأحمد السُّبكي!!

زر الذهاب إلى الأعلى