قراءة متأنية فى كتاب “مستقبل الثقافة فى مصر العربية” للدكتور سليمان حُزين (9)
يكتبها د.حامد عبد الرحيم عيد
” المواطنة”
تحدثت فى المقالات السابقة عن السبعة فصول الاولى من كتاب “مستقبل الثقافة فى مصر العربية” للدكتور سليمان حُزين وجاءت بالترتيب: “جذور الثقافة فى مصر العربية”، “ثقافة مصر فى مسيرتها مع الحضارة والتاريخ”، “ثقافة مصر العربية المعاصرة والمؤثرات الداخلية والخارجية بها”، وجاء الفصل الرابع بعنوان حول “المتغيرات المعاصرة فى الغرب والشرق وفى العالم العربى” وكيف كان صداها المرتقب فى الفكر والثقافة، ثم الفصل الخامس وعنوانه “تتابع أجيال الثورة فى مصر العربية المعاصرة” عن بحث مقارن فى دراسة الشخصية الثقافية وتاريخ الحضارتين القديمة والحديثة فى بلدين عريقين هما: مصر والصين، وتم فيه توضيح الفرق بين الشخصية الحضارية لكل من مصر والصين، ثم الفصل السادس الذى جاء بعنوان “مشروع ميثاق العمل الثقافى فى مصر”، وكان الفصل السابع بعنوان “فلسفة المعرفة والتعليم فى مصر عبر العصور”.
وفى مقال اليوم أتحدث عن الفصل الثامن الذى جاء بعنوان”التربية السياسية: تنمية الشعور الوطنى بالانتماء والمسئولية” وهو خلاصة تقرير كان قد كتبه د. سليمان حُزين عندما قامت احداث 18، 19 يناير 1977 وتمت مناقشته فى اجتماع مشترك للمجلس القومى للتعليم والبحث العلمى والتكنولوجيا والمجالس القومية المتخصصة فى ابريل 1977، وكان أن جمع بين الشعور بالانتماء والمسئولية الوطنية.
يبدأ د. سليمان حُزين تقريره الهام بأنه كان من قدر مصر دائما أنها “أرض الزاوية وملتقى العالم” وهى عقد الوصل ولا تملك أن تعيش لنفسها أو أن تغلق ابواب المادة أو الفكر عليها، وهنا وفى وسط ظروف صعبة فى الداخل والخارج فقد سعت مصر أن تبنى الانسان المصرى لمواجهة مشارف القرن الحادى والعشرين. لقد كان اسلوب الاصلاح فى الماضى يقوم على تلمس الضعف وعلاجه، إلا ان اسلوب العصر فى النصف الثانى من القرن 20 قد اتجه الى البحث عن مكامن القوة فى حياة الشعوب. وهنا فقد سعت مصر أن تبنى الحرية والوحدة الاجتماعية ككل لا يتجزأ، إلا أن ما حدث فى احداث يناير 1977 كان أمرا يستحق النظر المتعمق فى خلفياتها وملابساتها ولماذا ظهر هذا الشعور المشتت بين شبابها ومن اشعلوها حيث مزق نفوسهم بين الولاء لمصر والولاء لفئات اخرى فكرية أو دينية أو ذات دوافع أجنبية، فقد استغلت عناصر دخيلة هؤلاء الشباب وغررت به نتيجة أنهم-أى شبابنا- لم يكن محصنا بالقدر الكافى. إن تلك الاحداث لم تكن طارئة أو نزوة مردها لطبيعة الشباب بل هى رد فعل شعبي لاستثارتهم بسبب ظروف اجتماعية أو اقتصادية أو حتى سياسية بالاضافة الى ما يتصل بتيارات وعوامل خارجية تتعرض له بحكم موقعنا وسط عالم سريع التحول، حيث يتوجب أن نتناول دراستها بالاسلوب العلمى لتقصى اسبابها الكامنة فهى لازمة من وجهة نظر الامن القومى للوطن، هذه الدراسات يجب أن تبدأ فى إطار اصول الشعب المصرى وروحه وشخصيته على حقيقتها، وينبغى أن تشمل مجتمعات الاحياء الحضرية فى المدن ومجتمعات الريف وخلفياتها الاجتماعية والفكرية والسياسية. لقد قسم التقرير الذى تقدم به د. سليمان حُزين المسئولين عن احداث يناير 1977 الى ثلاثة فئات: فئة قليلة ومحدوة من المحرضين والمضللين، وفئة أكبر منها وهى منقادة أو منساقة عن غير وعى وغالبيتهم من الصبية والفتيان تلاميذ المدارس المتسربين من التعليم بحكم ظروف معيشتهم فعاشوا فى الشارع اغلب يومهم، أما الفئة الثالثة فهى تضم أهل الثقافة وبعض المسئولين الذين لم يكترثوا بالامر كأنه لا يعنيهم..!
ومن دراسة هذه الظاهرات بين الشباب يرى د. سليمان حُزين أنها قد تحدث بسبب ضعف الشعور بالانتماء والمسئولية بينهم وقد يكون راجعا الى ضعف برامجنا فى التربية والتوعية والوطنية والاتجاه فى التعليم أكثر منه الى التثقيف والتربية الوطنية بالاضافة ان برامج العمل السياسى لم تعن بهذا الجانب أو قد يكون هناك تشتت الشباب وولائهم لفكر آخر قد يكون استعمارى أو دينى متطرف وكل ذلك يغلب على ولائهم لوطنهم ومجتمعهم الذى نشأوا فيه ورعاهم. وهنا لا بد ان تشمل دراسة تلك الاسباب كل النواحى الاجتماعية والاقتصادية، فالفقر والحاجة وعدم توفر الرعاية لجميع الطبقات قد يكونا ضمن اسباب هذه الظاهرات وقد يكون من المناسب أن يتم توزيع الخدمات والرعاية والتوعية الصادقة لظروف البلاد بلا مبالغة فى تغذية التطلعات التى لا يمكن تحقيقها فى الظروف الحالية مع مواجهة الشعب بالحقائق بدون تزويقها، ولا مفر أن تعيد اجهزة الاعلام اسلوبها فى عرض مشروعات الدولة ووعودها ومنجزاتها بحيث ألا تصبح بوقا دعائيا مبالغا فيه قد تسئ للوطن من غير أن تحتسب.
لقد تم فقد التوازن بين نظريتى “الثواب” و”العقاب” فى العمل السياسى أو الوطنى العام بل امتد للعمل الادارى والانتاجى، وإن الوقت قد حان لان تعيد الدولة بمختلف اجهزتها النظر فى فقدان هذا التوازن من خلال النظر الى قوانين العمل ولوائحه التطبيقية الحالية فقبل أن يكون العمل “حقا” فهو “واجبا” بل واجب مقدس فى نثل تلك الظروف الصعبة.
أما عن مبدأ “أهل الثقة” ومبدأ “أهل الخبرة” فلا بد من العمل على اعادة النظر فيهما، فقد كان مقبولا فى بداية سنوات الثورة التى كانت تريد حماية نفسها فرجحت أهل الثقة على كفة أهل الخبرة فى بعض جوانب العمل الوطنى، والآن لا بد العمل على توسيع نطاق مضمون ” الثقة” ليشمل فئات أوسع من المواطنين، خصوصا من أهل “الخبرة” ولا يقتصر الامر فيه على العلاقات الشخصية. كما أنه يتوجب العناية بمواصفات العمل القيادى فى مختلف المجالات ووضع معايير الاختيار والترقية بحيث يكون من ضمنها “القدوة السلوكية” الى جانب الخبرة العملية.
وتحدث التقرير عن مشكلة “تزايد السكان” التى أعتبرها تزيد من صعوبات مواجهة احتياجات التقدم، إلا أنه لم يستهين بحلها فالامر ليس بالامر الهين، إنما يحتاج الى صبر وأناة فلا يوجد حلول سحرية ولا بد من أن يتم حلها بهدوء وبشكل علمى بعيدا عن الامانى ومن خلال انتشار التعليم، والوعى بقيمة الحياة والتزاماتها، والتوسع فى الخدمات الصحية التى اشيع شعور الثقة والاطمئنان لرعاية الدولة الصحية مع التعريف بدور تنظيم الاسرة وشئون السكان، بدون المبالغة فى التخويف والافراط فى التشاؤم، بل تقوية عمل الدولة فى مجال التعليم والثقافة والاعلام والصحة مع تأمين الغذاء القومى والعمل للاجيال القادمة.
وفى ختام التقرير أكد د. سليمان حزين أن تلك الاحداث كانت من الخطورة بمكان وتستأهل اجراءات جذرية الطابع وبعيدة المدى تأمينا للمستقبل مع مدها افقيا مع مجال العمل وطوليا مع الزمن، ولا بد من التكامل بين أجهزة الدولة ممثلة فى وزارات التعليم والثقافة والاعلام والشئون الاجتماعية والشباب والازهر الشريف، بالاضافة الى أجهزة الثقافة والتوعية الحرة وغير الحكومية فى مجال الكتابة والنشر والصحافة والسينما وغيرها وأجهزة التنظيمات الشعبية والنقابات والجمعيات والمجالس العليا كالمجس الاعلى للصحافة والجامعات والشباب والازهر.
———-
استاذ بعلوم القاهرة
[email protected]