قراءة متأنية فى كتاب “مستقبل الثقافة فى مصر العربية” للدكتور سليمان حُزين (12)

“شجرة الجامعة فى مصر..  رؤية تاريخية تحليلية”

تحدثت فى المقالات السابقة عن العشرة فصول الاولى من كتاب “مستقبل الثقافة فى مصر العربية” للدكتور سليمان حُزين وجاءت بالترتيب: “جذور الثقافة فى مصر العربية”، “ثقافة مصر فى مسيرتها مع الحضارة والتاريخ”، “ثقافة مصر العربية المعاصرة والمؤثرات الداخلية والخارجية بها”، “المتغيرات المعاصرة فى الغرب والشرق وفى العالم العربى” وكيف كان صداها المرتقب فى الفكر والثقافة، “تتابع أجيال الثورة فى مصر العربية المعاصرة”، “مشروع ميثاق العمل الثقافى فى مصر”، وكان الفصل السابع بعنوان “فلسفة المعرفة والتعليم فى مصر عبر العصور”، وجاء الفصل الثامن بعنوان”التربية السياسية: تنمية الشعور الوطنى بالانتماء والمسئولية”، ثم “دور التعليم فى تنمية الفكر القومى فى مصر المستقبل”، وأخيرا “مشروع باصلاح جذرى للتعليم فى مصر العربية”
وفى مقال اليوم، نأتى الى الفصل الثانى عشر من الكتاب والذى جاء بعنوان ” شجرة الجامعة فى مصر، رؤية تاريخية تحليلية ” حيث اردت ان يقرأ معي الجميع حديث الشجرة أو الكتاب الذي وضعه الراحل عند احتفال جامعة القاهرة عام 1983 بعيدها أل 75 (1908-1983) بعنوان: “شجرة الجامعة المصرية”، حيث حكى فيه قصة وجود الجامعة من مصر القديمة حتى اليوم، فكان بالحق حديثا اسميه قصة الشجرة، شجرة العلم، التي أورقت لمصر الحضارة والعلوم، وما زلنا ليومنا هذا نبحث عن الثمار اليانعة لتلك الشجرة العظيمة، وهى شجرة العلم، حيث بدأ حديثه بالقول “لقد كانت فترة الجامعة الاهلي بالقاهرة من 1908-1925 على قصرها وانحصارها فى مجال العمل بها، من أمجد ايام العمر بالنسبة لشجرة الجامعة فى مصر. وكان مطلع جامعات المدن فى الريف بأسيوط عام 1955 بشير عهد امتدت فيه فروع الشجرة وأزهارها الى مكامن القوة البشرية ومراتعها فى ارض الكنانة”
إن هذا الحديث يحمل حصيلة ستين عاما قضاها سليمان حزين فى ظلال الشجرة، منها ما يقارب ست سنوات مشتركة مع ظلال جامعات أخرى فى بلاد الغرب، وقد حاول فى حديثه أن يجمع بين انتمائه لجامعته الأم وأخواتها من جامعات أرض مصر، وبين ولائه لما تعلم من حياة الجامعة بمصر والخارج وأن يكون صادقا مع نفسه ومع انتمائه الجامعي، ومع أمانة التاريخ، ويقول فى مقدمته “إنه إذا كان هذا الحديث لا يمكن أن يطمع صاحبه فى أن يرقى إلى مرتبة القصة الشاملة والمفصلة لتاريخ امتد إلى نيف وخمسين قرنا فوق أرض الكنانة – إذ إن أمر ذلك يحتاج إلى مجلدات من السرد والحكاية والتحليل والتعليق والتفسير – فإنه يطمع فى أن يكون قد حلّق بالقارئ فوق أثير تلك الحقبة الطويلة من التاريخ ليعطى صورة هى أقرب إلى الفيلم السريع منها إلى التصوير الثابت عند كل موقف من مواقف التاريخ ذى التفصيل، الذى يخشى أن ينتهي بنا تتبعه إلى ضياع صورة الفيلم العامة وحكايته الشاملة المتتابعة”.
عاشت جامعاتنا دائما- يقول استاذنا- بأمرين لا بديل عنهما فى حياة أي جامعة تدعى هذا الاسم العظيم، ألا وهما البحث بواسطة العقل وبواسطة العلم المتجرد عن حقائق الأشياء، والبحث بواسطة الضمير، وعن طريق السلوك السوى فى الحياة عن ما هو حق وطيب وجميل فى حياة الإنسان. وتمثل هذا الجمع بين البحث عن الحقيقة والبحث عن الحق فى أن جامعاتنا ربطت، منذ أيامها السحيقة تلك، بين ما أصبحنا نصطلح الآن على تسميته بالعلم والإيمان: العلم بحقائق الحياة والخليقة من حولنا بما فيها حياة الإنسان، والإيمان بالخالق، وبكل ما حلى به خليقته من القيم والمثل ومعانى الحق والخير والجمال.
وعن قصة الشجرة يقول أستاذنا: “إن فكرة الجامعة في مصر ازدهرت فوق أرضها في بعض العصور، وضمرت في بعضها الآخر لتعود مرة أخرى للإبهار في دورات متعاقبة بدأت بجامعة ” أون ” قرب الدلتا، والتى اعتبرت أكبر مركز عرفه الإنسان في مصر كصيغة يمكن أن نعتبرها شبيهة بمدرسة اليوم، حيث جمعت بين فكر الدنيا وفكر الآخرة، واستمر هذا الأسلوب من التفكير والعمل على مر العصور، حيث استغرق ذلك حوالي خمسة آلاف سنة، وهي محصلة العهد الفرعوني وما قبله، وكان أن ارتبط كل هذا بنهر النيل العظيم وفيضانه ومستوياته، وبين نظام التقويم وحساب المواسم والشهور، والأيام كما ارتبط كل ذلك بالفكر الرياضي والعمل الهندسي، حيث تزاوج ذلك كله، وتمازج مع الروح وتأملها وممارسة العبادات وربط الحياة الأولى بالأخرى في مزيج كان هو خلاصة العلم بمعناه الأولى والأشمل والأعم، بل أيضا بمعناه، الذي سار عليه الفكر الجامعي خلال قرون عديدة جمعت فيها الجامعات التقليدية بين علم الدنيا وفكر الدين .
وتأتى مرحلتها الثانية، التى ارتبطت بجامعة الإسكندرية ومكتبتها العريقة حتى دخول الإسلام لمصر، حيث أضحت مركزا ومقرا للعلم والفكر والحكمة، وهناك حدث تمازج بين الفكر المصري مع فكر البحر المتوسط، فكان أن جمعت تلك المدرسة العظيمة بين الفلسفة اليونانية، وبين تراث مصر الديني القديم، وفى مرحلتها الثالثة، التى أتت بعد مرور أكثر من ثلاثة قرون على دخول الإسلام لأرض الكنانة، بعد أن جاءت موجة جديدة من المغرب العربي، وهي الأرض التي سبق لمصر القديمة أن اتصلت بها فكرا وثقافة فى عهد قرطاجة، وتوجت بإنشاء الأزهر كمنارة جديدة للعلم في بر مصر كله وكثالث الجامعات في تاريخ مصر بعد أون مصر القديمة، والإسكندرية في عهد الرومان. ولان مصر كانت دوما وسطا للعالم وواسطة عقده فقد أضفت على الازهر منذ ايامه الاولى صفة “العالمية” الاسلامية ولم يكن للفاطمية بل للمذاهب الاسلامية الاربعة وللعالم الاسلامى كله واعتبر “الجامعة الامة”.
وتأتى المرحلة الرابعة، التى شهدت بداية النهضة العلمية الحديثة، التى تواكبت مع عصر محمد على الذى أنشىء المدارس الحديثة مثل مدرسة الطب والطب البيطرى والصيدلة والهندسة، ثم تلى ذلك إرهاصات الجامعة الأهلية التى حافظت على كيانها وجعلت من نفسها مركزا وطنيا للفكر الجامعى وتفاعلت مع البيئة وتواصلت مع مجتمعها، وكانت أن أدت لقيام الجامعة المصرية، والتي مضت في مسيرتها ونموها مشعة بنورها على الشرق كله، وساهمت فى بناء نهضة الامة والقومية.
كان ختام صاحب حديث الشجرة، كما يقول نقدا للذات، قام فيه بممارسة ما تعلمه من الجامعة أن قول الحق ورعاية سيرة الشجرة اقتضى أن يأتى هذا النقد، بكل ما يحمله من صدق وصرامة، خاتمة صادقة وصريحة لهذا الحديث عرض فيها لموضوعات ثلاثة يبدو أنها تقع على هامش العمل الجامعى بمعناه التقنى الضيق، ولكنها فى الواقع لا تبعد كثيرا عن صميم هذا العمل الجامعى، أو بعبارة أدق وأصح، فإن الجامعات لا تملك أن تغفل أيا من هذه الجوانب الثلاثة، التى تتداخل فى عمل الجامعة، رغم أننا جميعا قد لا نواليها الاهتمام الواجب بدرجات متساوية، وهذه الموضوعات هى: الثقافة العامة فى عمل الجامعات، والديمقراطية فى اتصالها بإدارة الحياة الجامعية، ثم أخيرا السياسة، وما قد تجر إليه الجامعات والجامعيين من مقتضيات فى العمل السياسى.
بالفعل كان الدكتور سليمان حزين مثالا فريدا للعالم المتكامل، الذي كرس حياته لعلمه ولوطنه‏، عاشقا لأرض مصر الطيبة وأبنائها الأوفياء‏، وسيظل دائما واحدا من أبرز رواد الفكر والثقافة في مصر القرن العشرين‏، وإذا كان لى من طلب، أو قل رجاء أن تقوم جامعة القاهرة أم الجامعات فى الشرق بالتصريح بطبع هذا الكتاب فى إطار مشروع القراءة للجميع ليقرأه جموع طلابنا فى شتى الجامعات المصرية ليشهدوا لجيل الرواد بأنهم كانوا دائما يقرنوا القول بالعمل، وإننا لندعو للذين فارقونا منهم بالرحمة والمغفرة، والذين بين ظهرانينا الآن بطول العمر ودوام الصحة، فهم تيجان مصر ومفاخرها.
—————-
استاذ بعلوم القاهرة
[email protected]