قراءة متأنية فى كتاب “مستقبل الثقافة فى مصر العربية” للدكتور سليمان حُزين (13)
يكتبها : أ.د.حامد عبد الرحيم عيد :
“الختام وسيرة عالم ومثقف مصرى”
تحدثت فى المقالات السابقة عن العشرة فصول الاولى من كتاب “مستقبل الثقافة فى مصر العربية” للدكتور سليمان حُزين وجاءت بالترتيب: “جذور الثقافة فى مصر العربية”، “ثقافة مصر فى مسيرتها مع الحضارة والتاريخ”، “ثقافة مصر العربية المعاصرة والمؤثرات الداخلية والخارجية بها”، “المتغيرات المعاصرة فى الغرب والشرق وفى العالم العربى” وكيف كان صداها المرتقب فى الفكر والثقافة، “تتابع أجيال الثورة فى مصر العربية المعاصرة”، “مشروع ميثاق العمل الثقافى فى مصر”، وكان الفصل السابع بعنوان “فلسفة المعرفة والتعليم فى مصر عبر العصور”، وجاء الفصل الثامن بعنوان”التربية السياسية: تنمية الشعور الوطنى بالانتماء والمسئولية”، ثم “دور التعليم فى تنمية الفكر القومى فى مصر المستقبل”، و”مشروع باصلاح جذرى للتعليم فى مصر العربية” واخيرا كان الفصل الثانى عشر والذى جاء بعنوان “شجرة الجامعة فى مصر، رؤية تاريخية تحليلية ”
كان ختام كتاب الدكتور سليمان حزين “مستقبل الثقافة فى مصر العربية” عنوانا مهما تحدث فيه عن رحلته الطويلة وسيرته الذكية التى أستغرقت عمره كله من مطلع الحياة التى بدأت فى الرابع والعشرين من شهر مايو 1909 حيث خرج طفلا الى الحياة فى بيت مؤجر فى مدينة حلفا عند الطرف الشمالى من ارض السودان الذى يطل على نهر النيل حتى مطالع الطفولة حيث كان يسمع عن قصص التماسيح التى تجوب بالنهر حتى وصل الى احضان جديه بريف مصر حيث تعلقا به وارسلاه الى كتاب القرية فى حارة الثعالبة وخرج منه بالدرس الاول عن تقدير ثمن العلم والمعرفة وأن أجرها يعطى فى الاخرة. وانتقل الصبى مرة اخرى الى وادى حلفا ثم الى مدينة أم درمان حيث تعلم فى مدرستها اللغة الانجليزية الى جانب العربية، ونجح بامتياز فى امتحان الشهادة المصرية. وعندما ظهرت فتوة الصبى انقسم اهله الى قسمين منهم من اراد الحاقه بالازهر واخرون كانوا يرون مستقبله فى التعليم الحديث. وفى خريف 1921 التحق بالمدرسة الثانوية المصرية فى طنطا حيث تمتع بالمجانية طيلة فترة التعليم، وخرج منها وهو يحمل فضل اثنين هما استاذ اللغة العربية واستاذ الجغرافيا حيث تتلمذ على يديهما باسلوبهما القوى المحبب. وفى 1925 حصل على شهادة اتمام الدراسة الثانوية من القسم الادبى بترتيب متقدم حيث التحق بكلية الاداب بقسمى الجغرافيا والاجتماع وكان رئيس الجامعة أنذاك هو الاستاذ احمد لطفى السيد كما كان عميد الكلية هو مسيو هنرى جريجوار البلجيكى وكان ضمن اعضاء التدريس من المصريين طه حسين ومنصور فهمى ومصطفى عامر ومحمد عوض ومصطفى عبد الرازق وأحمد أمين ولكن الغالبية كانوا من الاجانب من جنسيات مختلفة منهم لوران ولالاند وسانياك وجريفز وناللينو وغيرهم حيث كانت الجدية والشدة هى الصفة الغالبة لهؤلاء الاساتذة مما كان سببا مباشرا فى نجاح الجامعة المصرية ونجاح كلية الاداب فجاءت نتائج اول دفعة ليسانس عام 1929 بنتائج باهرة وكان ان حصل سليمان حزين على درجة الليسانس بامتياز فى قسم الجغرافيا فى يونيه 1929 ثم الليسانس ايضا بامتياز من قسم الاجتماع فى اكتوبر من نفس العام وكان ذلك بشيرا لمسيرة ناجحة له انتهت بتأثيثه لجامعة جديدة فى صعيد مصر بعد تخرجه بست وعشرين عاما..! تم تعيينه طالب بحث لمدة عام بمكافأة 12 جنيها حيث اشرف على مكتبة القسم وبات مرشدا للطلاب تهيئة ليكون عضوا فى هيئة التدريس. وفى أوائل يوليو 1930 تم ايفاده الى انجلترا حيث التقى بأستاذه الانجليزى “برسى روكسبى” فى ليفربول حيث بدأ فى حضور عدد من الدراسات الحرة. ثم التحق بمدرسة استاذ بريطانى اخر وهو “هربرت جون فلير” من جامعة مانشستر وقضى ثلاثة اعوام دارسا وعاملا فى رعايته فى تخصص الاثنولوجيا والانثروبولوجيا، وكان أن انتقل لدراسة عدة بلدان فى غرب اوربا مما أثرى معارفه وتجاربه التى نفعته فى التعرف على معالم وآثار الحضارتين المصرية والعربية.
لقد طور سليمان حزين تكوينه كباحث جغرافى أتيحت له الفرصة لأن يخرج من الفكر التقليدى للجغرافيا الى فجر عهد جديد لهذا الفكر، وأتيحت له فرصة مضاعفة حيث استند الى تراث عبد الرحمن بن خلدون كأول بذرة للفكر العربى بالاضافة الى أتصاله بطائفة ممتازة من علماء الغرب واصحاب الفكر الجغرافى المتفتح ضمن ثقافات اوربا المعاصرة وبالتالى سار على نهج جديد وحياة نشطة نفعته فى الجامعة وخارج نطاقها وخدمة العمل الدولى حتى بات تخصصه الذى يطلق عليه “الجغرافيا الحضارية” التى تقوم على التكامل مع غيرها من العلوم، فعندما عاد من بعثته فى يناير 1936 بدأ تطبيق أراءه فى البحث العلمى قبل أن يطبقها فى التعليم.
كانت رحلته البحثية الاولى بتكليف من الجامعة وبمساعدة مبلغ الجائزة التى حصل عليها من جامعة مانشستر (جائزة لانجتون) مع مبلغ مواز (1000 جنيه مصرى) من الجامعة، الى اليمن وحضرموت مع زملاء له من كلية الاداب (عضو) وكلية العلوم (عضوين) والتى استمرت زهاء سبعة اشهر من اوائل مارس 1936 حتى بداية العام الدراسى لنفس العام فى سبتمبر حيث درست البعثة الظروف الطبيعية والفيزيوغرافية وتطورات المناخ والعصر المطير فى هذه المنطقة الوعرة، كما قامت البعثة بدراسة أنثروبولوجية للسلالات البشرية التى تقطن الاقليم وكذلك الظروف والتكوينات الجيولوجية وبعض الاثار القديمة من عهد سبأ وحمير، كما أمتدت الدراسات الى بعض نواحى النشاط الزراعى والانتاجى.
بعد العودة من تلك البعثة العلمية بدا عمله بقسم الجغرافيا بتطبيق النظرية الجغرافية الحضارية ولطلاب المرحلة الاولى وكان ذلك توفيقا كبيرا حيث زاد ذلك من عدد الطلاب الذين درسوا على يديه فى كليات أخرى غير كلية الاداب، كما فهم سليمان حزين علم الجغرافيا والثقافة الجغرافية كعلمين متكاملين يربطهما المنحى العلمى والمنحى الثقافى فى رباط فكرى ووجدانى واحد. وكان ان طبق هذا المفهوم لفهم الماضى من جهة، وأستشراف المستقبل من جهة أخرى وخرج بالجغرافيا الحضارية ليطبق اسلوبها فى مجال التربية والتعليم حين تم انتدابه الى وزارة التربية والتعليم وكذلك فى فترة انشاءه لجامعة اسيوط، ثم أنتقل بعد ذلك بربط العلم والثقافة حين كان وزيرا للثقافة حيث جعل الدولة كلها تنظر الى الثقافة على أنها خدمة للجميع ونظر اليها انها صناعة وتطبيق عملى يشمل الريف قبل المدينة.
بعد الحرب العالمية الثانية كان من مقتضياتها ان تقوم كل دولة بالتعريف بحياتها وفكرها وثقافتها فى العالم وكان ان بدأت ذلك بريطانيا بانشاء ونشر ما يعرف بالمجلس البريطانى، وفرنسا بالمركز الثقافى الفرنسى، ولما كانت مصر الدولة الاساسية التى نالت استقلالها فى العالم العربى واصبحت مركزا للفكر والثقافة العالمية فقد رأت أن تنشىء معهد مصرى للثقاقة فى لندن وأختير سليمان حزين لهذا الامر حيث أبحر الى لندن مع زوجته الشابة ووليده الاول ضمن قافلة من الاسكندرية لتعبر البحر المتوسط فى رحلة غير مأمونة الى بريطانيا محملا بمكتبة تبلغ اثنى عشر الف من المجلدات عن حياة وثقافة مصر والعالم العربى، حيث اشترى بيتا فى لندن وقام بافتتاح المركز الذى أخذ يؤمه الباحثين من بريطانيا ومصريين وعرب وأصبح منتدى لكل الساعين للتعرف على الثقافة المصرية والعربية.
فى تلك الاثناء كان ان اتصل وتواصل مع عدد من العلماء والاساتذة اللاجئين الى انجلترا من اقطار اوربا وتدارس معهم فكرة انشاء هيئة للثقافة العالمية وهى التى عرفت ابتداء من 1946 بهيئة اليونسكو والتى اختيرت باريس مقرا لها واول من مثل مصر بها كان سليمان حزين.
كانت تلك شزرات من سيرة الرجل الطويلة الكثيرة المحطات الغنية الانجازات والتى استغرقت فى الكتاب حوالى 113 صفحة كاملة منذ مرحلة الصبا حتى الشيخوخة فكانت بحق قصة حياة لمفكر ومثقف اعطى بحب لبلده ووطنه ما تعلمه وما فقه فيه وسيظل د.سليمان حزين ملىء السمع والبصر ما حيينا رحمة الله عليه وغفرانه.
—————
استاذ بعلوم القاهرة
[email protected]