قراءة متأنية فى كتاب “مستقبل الثقافة فى مصر العربية” للدكتور سليمان حُزين (5)
بقلم - د.حامد عبد الرحيم عيد
تحدثت فى المقالات السابقة عن الاربعة فصول الاولى من كتاب “مستقبل الثقافة فى مصر العربية” للدكتور سليمان حُزين وجاءت بالترتيب حول “جذور الثقافة فى مصر العربية”، “ثقافة مصر فى مسيرتها مع الحضارة والتاريخ”، و”ثقافة مصر العربية المعاصرة والمؤثرات الداخلية والخارجية بها”، وجاء الفصل الرابع بعنوان مهم حول “المتغيرات المعاصرة فى الغرب والشرق وفى العالم العربى” وكيف كان صداها المرتقب فى الفكر والثقافة، وللمرة الثانية أتلقى عليه تعليقا مهما من استاذنا الجليل د.اسماعيل صبرى مقلد استاذ العلوم السياسية وعميد كلية التجارة بجامعة اسيوط الاسبق وهو من هو….حيث يعتبرهذا الفصل واحد من اهم فصول كتاب الدكتور سليمان حزين عن مستقبل الثقافة في مصر في ظل التحولات الفكرية الجذرية التي طرأت علي اوضاع العالم اثر انتهاء الحرب الباردة وسقوط الايديولوجية الشيوعية وبزوغ الايديولوجية الليبرالية التي بشرت بنهاية حقبة الصراعات المذهبية والايديولوجية القديمة وتحول النظام السياسي والاقتصادي الدولي في مسار جديد لم يكن احد في العام يتصور ان يتم التحول اليه بهذا المستوي من السرعة والشمول والعمق.. فهذه هي الفترة التي خرج فيها مفكرون غربيون كفوكوياما بنظريته عن نهاية التاريخ وصمويل هنتنجتون بنظريته عن صراع الحضارات وغيرهم ممن بشروا بان القرن الحادي والعشرين سوف يكون قرنا امريكيا بامتياز حيث سيكون تفوق القوة الكونية العظمي الوحيدة في العالم بالفكر والاقتصاد والتكنولوجيا وبالقيم الديموقراطية والانسانية الجديدة وباحترامها غير المسبوق لحقوق الانسان.. وكنتيجة لهذه التحولات في معادلات القوة الدولية وسيطرة القطب الواحد تراجعت قوة حركة عدم الانحياز لان الاختيار القديم في صراعات الاقطاب الكبار لم يعد مطروحا… وهكذا تبدل المسرح السياسي الدولي علي نحو لم يسبق له مثيل… هذا هو المناخ الذي قام الدكتور سليمان حزين برصده وتحليله من منظوره كمفكر موسوعي شامل وليس من منظوره الضيق كعالم جغرافي فقط.. ومن هنا كانت دعوته لنا هنا في مصر بضرورة استيعاب هذه التغييرات الدولية بمختلف ابعادها ومجالاتها والتكيف معها ثقافيا وفكريا بالصورة التي تنسجم معها ولا تقف في طريقها وتتقاطع معها او تعاديها حتي لا تسير عكس التيار وتحس بانفصامها عن العصر الذي تعيش فيه… وهذه فيما احسب نظرة مستنيرة وتقدمية لاحوال العصر الجديد، عصر ما بعد تراجع الايديولوجيات والصراعات المذهبية التي ضيقت الخناق علي الثقافات الوطنية عندنا كما في غيرنا من دول العالم الثالث بعامة.. فهي دعوة للانفتاح علي العالم والتجاوب معه حتي نستفيد ونفيد علي قدر الجهد والاستطاعة… وهذا الذي خصه الدكتور حزين هنا يدخل في اطار مفهوم التحدي والاستجابة ، ويعني اما ان لديك القدرة علي مجاراة التطور والتاقلم معه او ان تتنحي وتترك لياخذ غيرك مكانك.. وقد كان حريصا علي الا تكَن هذه هي نهايتنا مع كل ما حدث في العالم في حقبة ما بعد انتهاء الحرب الباردة بكل ميراثها من الافكار والثقافات والايديولوجيات (انتهى التعليق).
اليوم أعرج الى الفصل الخامس من كتاب “مستقبل الثقافة فى مصر العربية” وعنوانه “تتابع أجيال الثورة فى مصر العربية المعاصرة” عن بحث مقارن فى دراسة الشخصية الثقافية وتاريخ الحضارتين القديمة والحديثة فى بلدين عريقين هما: مصر والصين. حيث يبدأ بقوله: أن مصر بلد تاريخه طويل، تمتد فيه الحضارة المستقرة، منذ بداية زراعة القمح والشعير وبعض أشجار الفاكهة من الجميز والتين والكروم والزيتون، وما صاحبه من استئناس الحيوان وتربيته للغذاء والركوب، واستغلاله لبيئته المحيطة به من نهر الى أراضى شاسعة، فكانت مصر بذلك كله أعرق دولة جمعت بين صفتى “القدم” و “الاستمرار” فى مسارها الحضارى، ثم أضافت صفة ثالثة وهى صفة “التجديد” فى مراحلها المختلفة. لقد كان التنوع الذى شهدته الحضارة المصرية بصفاتها الثلاثة يختلف اختلافا واضحا عما نجده فى بلاد أخرى ذات حضارة قديمة ومستمرة وأبرزها حضارة الصين والتى على كبر مساحتها واتساع رقعتها الحضارية وظهور الزراعة وبعض صناعات الخزف فيها، إلا أنها سارت على وتيرة واحدة على مر العصور ولم تنزع الى التجديد الا فى أضيق الحدود فتشابهت حضارتها من حيث الانماط والمظهر كما يظهر ذلك عند زيارة متاحفها..وذلك بخلاف مصر فتجد الاثار الباقية من كل عصر مرت تختلف انماطها فمقابر قدماء المصريين تخالف مقابر العهد الاغريقى الرومانى، وكذلك المعابد والكنائس والمساجد وفنون العمارة والزراعة وأنواع المحاصيل. كانت مصر بلدا مفتوحا لمقومات الحياة والمدنية والحضارة وإن حمتها صحاريها القاحلة من الهجرات كبيرة العدد التى لم تغير من طبيعة الحياة على أرضها. لقد كان الموقع الجغرافى لكل من مصر والصين أثرا مهما، فكان لموقع الصين البعيد عن قلب العالم أثره فى احتفاظها بطابع حضارتها ونمطها المتميز والثابت على مر العصور، أما مصر فقد جاء تاريخها على مرحلتين متميزتين الاولى هى المرحلة الفرعونية والتى بناها الانسان المصرى اعتمادا على مواردها، والمرحلة الثانية عندما غزاها “الاسكندر الاكبر” وظهرت عالمية موقعها، فتتابعت الغزوات الى مصر من أدنى الارض حينا ومن أقصاها حينا آخر، حيث شارك كل هؤلاء فى توجيه مقدراتها ورسم الاتجاه العام لتاريخها.
أما الاختلاف الثالث بين مصر والصين، فيأتى فى الاتصال بين ما جاورهما من بلاد وحضارات، كانت مصر بلدا صغيرا بالنسبة لغيرها وأعتبرت “ارض الزاوية” بين أكبر قارتين فى العالم القديم وبحرين المتوسط وما وراءه والاحمر وما وراءه. أما الصين فهى “قارة” فى حد ذاتها ولها تاريخ قائم بذاته بأعداد سكان وقتها يفوق مصر بعشرين مرة، كما أن مصر كما أسلفنا مرت بعدة أدوار حضارية:ما قبل الاسرات، ومصر القديمة، ثم بعدها قرون أمة العرب. لقد أحتفظت الصين بنمطها الثابت والذى لم يتداخل الغرب معها ودخلت الشيوعية أبوابها دون أن يمحو أصول الحياة الاجتماعية والكونفوشية الاصيلة. لقد غزا نابليون مصر وبعده الانجليز حيث فتحت بذلك ابوابها للغرب فى غزو ثقافى أسماه د.حزين “الاستغزاء الثقافى” .
ذلك هو الفارق بين شخصية مصر الثقافية المفتوحة والوسطية وشخصية الصين النمطية الثابتة عند اصولها وجذورها. لقد عرفت مصر حضارة افريقيا واسيا منذ التاريخ، وعرفت لغة الحاميين والساميين ونقلت عنهما، كما عرفت مصر حضارة اليونان واثرت فيها فى مطلع العصر المصرى القديم، وكانت الاسكندرية بعد غزو الاسكندر عاصمة العالم الاغريقى والرومانى، كما أحتضنت مصر الكنيسة المرقسية وأقامت كرازتها بالاسكندرية ونشرتها الى بقاع افريقيا، ثم جاء الاسلام ودخل مصر فتبنته كما تبنت المسيحية من قبل، ولطبيعة الاسلام العالمية فقد أفاد من موقع مصر الوسيط وكان أن اتخذ الازهر مقرا له ومئذنة تنير العالمين.
أما عن تتابع أجيال الثورة فى مصر العربية فسيكون حديثنا فى مقال قادم بمشيئة الله.
————-
استاذ بعلوم القاهرة
[email protected]