“اللهم أنت ربّها، وأنت خلقتها، وأنت هديّتها للإسلام، وأنت قبضت روحها، وأنت أعلم بسرّها، وعلانيتها، جئنا شفعاء فاغفر لها”.
هذا الحديث الشريف عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة، وصلني يوم الجمعة مكتوبا على صورة تجمع شابا وطفلا شقيقين وهما يقفان أمام قبر جدتهما في مقبرة شهيرة بإحدى الدول الخليجية، وهما ابنا زميل وصديق كان مديرا لي في العمل لعدة سنوات.
في البداية كنت أستغرب هذه الصورة الأسبوعية والتي يحرص هذا المسؤول على إرسالها لي وفيها بعض أبنائه يقفون في وقار وخشوع أمام قبر والدته (جدتهم)، وقلت في نفسي: هذا أمر شخصي فلماذا يرسل مثل هذه الصورة لي ولآخرين غيري كل يوم جمعة؟ ثم هل فعلا هي صورة حديثة وليست قديمة يتم استدعاءها من أرشيف صوره كل يوم جمعة؟ وما هي الرسالة التي يريد توصيلها إلينا من خلال هذه الصورة؟
مع مرور الأسابيع والشهور وربما بضع سنين، لم تنقطع عادة صديقي المسؤول في زيارة قبر والدته بصحبة أولاده عقب صلاة كل يوم جمعة ، ولم يتوقف هاتفي عن استقبال صورتهم أمام قبر جدتهم وسط المئات من شواهد القبور المحيطة، مصحوبة بأدعية لها بالرحمة والمغفرة. هذا الحرص الدائم من الأب على اصطحاب الأبناء لزيارة جدتهم الراحلة، لا شك وراءه رسائل عديدة أراد أن يوصلها إليهم ليس هم وحدهم، بل كل من تصله صورهم أمام قبرها.
أبرز هذه الرسائل في رأيي هي التأكيد على بر الوالدين في حياتهما وبعد مماتهما، “وقل رب ارحمهما كما ربَّياني صغيرا”، وأيضا غرس قيمة الوفاء لمن رحلوا عنا من الأهل والأحباب، فلا تشغلنا الحياة بزينتها ومتاعها ومالها عن تذكّرهم والدعاء لهم دائما بالرحمة والمغفرة، وأيضا تذكر الحياة الآخرة التي تنتظرنا جميعا كبارا وصغارا مهما طال بنا العمر، فهي محطة الوصول وما هذه الدنيا التي نعيشها إلا محطة عبور ، والكيّس من استثمر الدنيا للوصول إلى جنة نعيمها دائم، وحياتها خلود.
ورغم كل الأحداث المؤسفة والأمثلة الصارخة لحالات عقوق الوالدين في مختلف دولنا العربية، والتي تنقلها الشاشات وصفحات الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي كل يوم، فلا يزال هناك أبناء أبرار يحسنون إلى آبائهم وأمهاتهم وخاصة أهل الخليج العربي حيث يذكر أحدهم واقعة مفادها أن مسؤولا خليجيا كبيرا كان يدفع والدته على كرسي متحرك في ممر أحد المستشفيات عندما تقدم أحد الكبار مجاملا كي يدفع الكرسي نيابة عنه، إلا أن ذلك المسؤول الكبير رفض بقوة قائلا: «إنها أمي وأنا أحق بهذا العمل». ودائما ما أرى بأم عيني رجالا كبارا يقبلون أيدي ورؤوس آبائهم وأمهاتهم وأعمامهم وأخوالهم وحتى إخوتهم الكبار، احتراما وتوقيرا لهم.
نعم، إن بر الوالدين أفضل الأعمال وأحبها إلى الله، حتى أنه مقدَّم على الجهاد في سبيل الله (جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فاستأذنهُ في الجهاد، فقال: أحَيٌّ والِداك؟ قال: نعم، قال: فَفِيهِما فَجاهِدْ).
اللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا وارزقنا بر أبنائنا، في حياتنا وبعد مماتنا، وسخِّر لنا أعمالنا وأيامنا لما يبلغنا جنة الخلد، التي ليس فيها شقاء، ولا ابتلاء. تقبَّل الله منا ومنكم الصيام والدعاء وصالح الأعمال.