مقالات الرأى

ناصر عراق يكتب : فاتن حمامة… وبساتينها المثمرة

أظنك تعلم أن السيدة فاتن حمامة استحوذت على وجدان الملايين ومشاعرهم بامتداد نصف قرن على الأقل، وهو أمر منطقي ومفهوم، فمنذ ظهورها على شاشة السينما للمرة الأولى وهي طفلة في 15 يناير 1940، وحتى رحيلها في 17 يناير 2015، ورصيدها في بنك الفن عامر وفريد، إذ يبلغ نحو 94 فيلمًا، فضلا عن المسلسلات الإذاعية مثل (أفواه وأرانب/ كفر نعمت وهو الجزء الثاني من أفواه وأرانب)، وقد شارك محمود ياسين وفريد شوقي في بطولة هذين المسلسلين، أما مسلسل (البراري والحامول) فقد تشرف يوسف شعبان بالتمثيل أمامها كما قال مرة عقب وفاتها. وفي التليفزيون قدمت (ضمير أبلة حكمت/ وجه القمر)، علاوة على الأفلام التلفزيونية الأربعة التي لعبت بطولاتها تحت عنوان واحد هو (حكاية وراء كل باب) والتي كتبها توفيق الحكيم.

وبمناسبة ذكر مسلسلاتها الإذاعية، فإن فاتن حمامة هي الفنانة الوحيدة التي يسبق اسمها كلمة (السيدة)، حيث ينطلق صوت المذيعة من الراديو قائلا: (السيدة فاتن حمامة) قبل اسم المسلسل أو اسم أي نجم آخر، وهو تقدير لم تحظ به فنانة أخرى، وأذكر جيدًا كيف كنت أنصت بشغف كبير، ومعي الملايين، في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي إلى تلك المسلسلات الإذاعية التي أسعدتنا قديمًا في أكثر من شهر من شهور رمضان الكريم.

فاتن الزوجة الخائنة

من المعروف أن السيدة فاتن حمامة استقرت في أذهان الملايين بوصفها الفنانة البارعة التي تتقن تجسيد شخصية الفتاة المغلوبة على أمرها أو المرأة الجادة أو الأم المكافحة، أي أنها لم تقرب الأدوار الكوميدية ولم تعرف الطريق إلى إضحاك الجماهير، ومع ذلك، فإن من يرصد أفلامها بدقة يكتشف أن لها صبوات مشرقة مع الكوميديا، سأحاول تذكيرك ببعضها في السطور التالية.
حين طل وجه الطفلة فاتن للمرة الأولى على الشاشة في فيلم (يوم سعيد/ 1940) لم تكن قد تجاوزت التاسعة من عمرها، فهي من مواليد 1931، ومع ذلك جذبت شقاوتها الجمهور وهي تشاكس الموسيقار الأعظم محمد عبدالوهاب بطل الفيلم، وعندما انتقلت من طور الطفولة إلى طور الصبية ثم الفتاة البالغة شاركت في بطولة عدد من الأفلام المهمة، الأمر الذي دفع صلاح أبوسيف أن يكتب اسمها مسبوقا بلقب (ممثلة مصر الأولى) في مقدمة فيلم (لك يوم يا ظالم/ 1951) وهي في العشرين فقط من عمرها، وقد كان هذا الفيلم أول عمل تتقمص فيه فاتن شخصية زوجة خائنة، (الفيلم الثاني كان “نهر الحب”، لكن الناس تعاطفت معها في ذلك الفيلم نظرًا لأن زوجها زكي رستم كان فظا غليظا يتعالى عليها بعلمه وثقافته ومنصبه، وهو سلوك منفر ومرفوض يربك أي امرأة بطبيعة الحال).

أفلامها المفقودة

للأسف، هناك عدد من الأفلام المهمة لفاتن صارت مفقودة الآن، فلم يرها أحد من أبناء الجيل الحالي وربما الأجيال التي سبقتنا، وسأذكر لك بعضها: مثل: (الملاك الأبيض 1946) للمخرج إبراهيم عمارة، و(الهانم/ 1947) لبركات، و(نور من السماء/ 1947) للمخرج حسن حلمي، و(ملائكة في جهنم/ 1947) لحسن الإمام، و(القناع الأحمر/ 1947) ليوسف وهبي، و(أبو زيد الهلالي/ 1947) لعز الدين ذو الفقار، و(كانت ملاكا/ 1947) للمخرج عباس كامل، و(المليونيرة الصغيرة/ 1948) للمخرج كمال بركات، وهو غير المخرج الشهير هنري بركات، وهو أول فيلم يظهر فيه رشدي أباظة. وفيلم (الحلقة المفقودة/ 1948) للمخرج إبراهيم لاما، و(نحو المجد/ 1948) بطولة وإخراج حسين صدقي، و(ابن الحلال/ 1951) للمخرج سيف الدين شوكت.
كلي أمل أن تظهر ذات يوم هذه الأفلام المفقودة أو بعضها، ليتسنى لنا مشاهدة الأعمال الكاملة لأعظم فنانة سينمائية في تاريخ السينما المصرية والعربية.

الكوميديانة المنسية

لعلنا الآن في حاجة إلى إطلالة سريعة على الجانب الكوميدي في أدوار فاتن حمامة، ذلك الجانب الذي لم يلتفت إليه أحد من الكُتّاب قبل ذلك فيما أعلم.
في فيلم (العقاب/ 1948) تلعب فاتن دور فتاة ثرية مدللة تقود سيارتها بتهور فتصدم الشاب كمال الشناوي، ثم تكيل له الشتائم، ولما تكتشف أنها أصابته في قدمه تأمره أن يركب معها السيارة لتوصيله، وفي الطريق تغمره بأسئلتها في مشهد عصبي/ كوميدي طريف.
وفي فيلم (أخلاق للبيع/ 1950) بطولة وإخراج محمود ذوالفقار تتجلى فاتن في مشاهد كوميدية عديدة تنهض عليها قصة الفيلم المأخوذة عن رواية يوسف السباعي (أرض النفاق). أما في (أشكي لمين/ 1951) للمخرج إبراهيم عمارة، فثمة مشهد كوميدي لطيف في القطار، فهي فتاة فقيرة بسيطة تجلس في الدرجة الأولى، رغم أنها قطعت تذكرة درجة ثالثة، ومع ذلك ترفض الانصياع لأوامر الكمساري بالذهاب إلى الدرجة الثالثة لأنها تأبى دفع الفرق، فيتدخل الراكب عماد حمدي ويدفع لها الفرق، ثم يصاب بأزمة قلبية مفاجئة، فتضطرب جدًا وتهمس لنفسها بأداء كوميدي مدهش: (يا مصيبتي… يموت ويودوني في داهية)، فلا تملك نفسك إلا وأنت تضحك من قلبك!
ويبقى فيلم (الأستاذة فاطمة) الذي حققه فطين عبدالوهاب عام 1952 أكثر الأفلام التي أظهرت الجانب الكوميدي في أداء فاتن حمامة، ولعل ابتسامتها المفتعلة (مجاملة) للولا صدقي في الكباريه خير مثال على براعتها في الكوميديا الهادئة.

فاتن الأنثى الشقية

لم تلعب السيدة فاتن دور البنت الشقية (الأنثى الدلوعة) إلا مرة واحدة فقط، وذلك في فيلم (حكاية العمر كله) أمام فريد الأطرش وأحمد رمزي وليلى فوزي، حيث ظلت مفتونة بأحمد رمزي، تتنظره وتشاكسه وتناكفه وتراقبه وتستفز رجولته وتحلم به ثم تقبله بجنون، غير منتبهة أو مكترثة بالمرة بالعاشق المفتون فريد الأطرش الذي يظللها برعايته وحنانه وغرامه المكتوم. هذا وقد عرض الفيلم في 30 أغسطس 1965، وهو من إخراج حلمي حليم.
أذكر جيدًا أنه في يناير 2009 قرر مهرجان دبي السينمائي تكريم السيدة فاتن، وغادر مسؤولو المهرجان بالفعل إلى القاهرة لمنحها درع التكريم في فيلتها بالقاهرة الجديدة، ولما طلبوا منها إجراء حوار طويل لينشر في جريدة البيان الإماراتية التي تصدر من دبي، وافقت على أن يتولى محاورتها الناقد السينمائي الكبير الأستاذ كمال رمزي، رعى الله أيامه ولياليه، ونشر الحوار وكان بديعًا بحق، وأذكر أيضًا أنني سألت الأستاذ كمال بعدها عن إمكانية أن تعود السيدة فاتن إلى الفن، فقال لي: (من الصعب جدًا، فقد قالت له إن الوهن استبد بها، وتخشى أن ترتبط بعمل، فلا تستطيع إكماله، فتسبب الأحزان والخسارات لكل مشارك معها في ذلك العمل).

ما أنبلك يا سيدتي… لذا أقول في ذكرى رحيلك الثامنة… وحشتينا يا ست فاتن.

زر الذهاب إلى الأعلى