قرأت لك

قراءة متأنية فى كتاب “مستقبل الثقافة فى مصر العربية” للدكتور سليمان حزين (2)

بقلم - د.حامد عبد الرحيم عيد:

0:00

فى مقالى السابق بموقع “مصر الان” قمت بالتعريف بكتاب خالد الذكر الاستاذ الدكتور سليمان حزين “مستقبل الثقافة فى مصر العربية” والذى يبدو فى زحمة الاحداث لم يتم الالتفات الى محتواه. ولم أكن متوقعا ردود الفعل التى جاءتنى وعلقت بشكل غاية فى الابداع والتألق أخترت منها خطابين أولهما لاستاذنا الجليل د. اسماعيل صبرى مقلد استاذ العلوم السياسية وعميد كلية تجارة اسيوط الاسبق، وبعد تقديم التحية للجهد المبذول من اجل اجلاء المعرفة عن الكتاب المهم أستطرد استاذنا الجليل، تحياتي الصادقة لكم علي ما تبذلونه من جهود كبيرة في سبيل اتاحة هذه المعارف الثقافية القيمة باصولها ومنابعها التاريخية الي متابعيكم من خلال العديد من مواقع التواصل الاجتماعي. واحسب اني كنت قد علقت بصورة مستفيضة علي ما جاء في كتابي المفكرين العملاقين الكبيرين الدكتور طه حسين والدكتور سليمان حزين في اغسطس الماضي عندما تفضلتم وطرحتم مقاربة حول منظور كل منهما لمستقبل الثقافة في مصر، وكيف انه بسبب التشابه الشديد في عنواني الكتابين، لم ياخذ كتاب الدكتور سليمان حزين حظه الكافي من اهتمام النخبة الثقافية المصرية به رغم قيمته الكبيرة وتاصيله الشامل لجذور الثقافة المصرية ولمصادرها الجغرافية والتاريخية التي تفاعلت مع بعضها لتنتج هذا المزيج الثقافي والحضاري الذي صار متفردا عن غيره من النماذج الحضارية المعروفة، وهذا هو اهم ما في كتاب الدكتور حزين الذي جاء كما اشرتم في ثلاثة عشر فصلا غطت القضية التي يبحث فيها من كافة جوانبها وزواياها.. فقد حدد عالمنا ومفكرنا الكبير الدكتور حزين لاصول الثقافة المصرية بانها تجمع بين ثلاثة ابعاد هي العربية والافريقية والمتوسطية بكل تفرعاتها وامتداداتها وتاثيراتها وان ذلك هو الاقرب الي التشخيص الواقعي من غيره، وتلك الابعاد كانت دوما وما تزال حاضرة ومؤثرة رغم ما قد يبدو بينها من تعارض واضح، لكن الشخصية المصرية بما حباها الله به من طاقة نادرة وفريدة علي الاستيعاب امكنها حل هذا التعارض بطريقتها حيث خرجت منه بلون ثقافي مختلف لا هو عربي كله ولا هو افريفي كله ولا هو متوسطي كله وانما هو كل ذلك معا في صورة منسجمة ومتناغمة مع بعضها، ولهذا تكونت لمصر شخصية ثقافية وحضارية عصية علي الاختراق او التفكيك كما حدث مع غيرها، ودليلي علي ذلك هو عجز الاحتلال الانجليزي لها والذي دام لنحو ثلاثة ارباع قرن عن النفاذ اليها او التلاعب بمكوناتها او تشويهها وانما خرج منها كما دخل، وهو امر نادر الحدوث والامثلة والنماذج كثيرة. فهذا النسيج الثقافي والحضاري المصري بخصائصه الفريدة ومكوناته الحضارية المتنوعة يوفر اساسا صلبا وراسخا يمكن تحريكه واستنهاضه َوالبناء عليه، فهو اساس ليس هشا كما قد يتصور البعض حتي وان كانت بعض التشوهات قد دخلت اليه اخيرا بفعل تاثيرات العولمة وثورة الانترنت والاتصالات التي اذابت الحدود والفوارق امكانية وتحاول محو الهويات الوطنية للدول والمجتمعات الانسانية بصبها في قوالب نمطية واحدة تنمحي معها تاثيرات الجغرافيا والتاريخ وتجارب الشعوب(أنتهت الرسالة).

والرسالة الثانية جائتنى من استاذ فاضل بجامعة القاهرة هو د.رفعت جبر رئيس قسم البيوتكنولى بكلية العلوم حيث أكد فيها: على أهمية إعادة نشر الكتابين فى كتاب واحد مع التركيز على النقاط المتشابهة والمختلفة من خلال نقد مقارن  مدروس ومنهجى هدفه نشر الثقافة فى مصر، مردفا أننا وحتي الآن لم نبلغ مقاصد وأهداف الكتابين..! والحقيقة تقول أن الكتابين يحملان فى طياتهما وصفة ثقافية ورؤية ثاقبة نافذة من عملاق وتلميذه لاتحتاج إلا لنفض غبار الأيام عنها وتطبيق معظم نقاطها مع الأخذ فى الإعتبار قضايا الحداثة والواقع. ولعل تلخيص كتاب سليمان حزين من جانب حضرتك يكون بداية طريق وأمل لدي ذوي الأمر للإلتفات إلى فكرة إعادة نشر الكتابين فى كتاب واحد ( أو بالكيفية المناسبة!؟) وبمقارنة موضوعية لصالح مستقبل الثقافة فى مصر.

لقد فتح نشر تلك الصفحات الناصعة من كتاب استاذنا الفاضل د.سليمان حزين المزيد من النقاش الحر بين المهتمين بالثقافة والتعليم فى مصر استشرافا للمستقبل ومحبة فى هذا البلد الجميل.

واليوم نسكمل الحديث الذى بدأناه بالقاء الضوء على الفصل الثانى من الكتاب الذى جاء بعنوان” ثقافة مصر فى مسيرتها مع الحضارة والتاريخ” حيث كان يرى أن الثقافة فى مصر لا تترتب على الصلة التى تربطنا بالغرب ولا بالتربية الحديثة واصولها المتخصصة، انما هى الجانب الفكرى والروحى من الحياة. فالانسان اصبح مثقفا عندما صقل الحجر وشكل منه عملا فنيا جميلا فهو صاحب ثقافة وذوق وفن، وفى مصر استطاع ان يضبط النهر العظيم ويقيم الجسور والاكوام، والذى اذا ترك كان يمكن ان يدمر الحياة على ارض النيل فيغرق الحرث والنسل. لقد استطاع هذا الانسان ان يركب النهر فى قاربه الصغير، ويصنع الشراع لسيتغل الريح فى دفعها.  كما جاب ارض مصر شرقا وغربا وشمالا وجنوبا، وأنشأ اول حكومة موحدة.، كل ذلك لم يكن ممكنا بدون ثقافة التى هى نمط حياة واسلوب معايشة. لقد نشأت الثقافة فى مصر متأصلة حيث أختلفت تماما عن ثقافة الكثير من الامم والشعوب الاخرى، ففى رأي د. حزين ان الثقافة ليست هى التى نتجت عن تعليم القراءة والكتابة ولا من خلال اتصال مصر بالعالم حولها والقريب منها بل تتصل بأسباب الحياة ومقوماتها ومظاهرها، منها نشأة الزراعة والمدنية من بناء وتشييد، حيث خططت الارض، وتم استغلال الوادى بطرق هندسية وعلمية، وحدث تعاطف بين الانسان والبيئة، وقسمت الارض وحفرت الترع من قبل جماعات اشتركت للاستفادة القصوى من نهر النيل، ونشات حياة متكاملة بين سكانها، وتم تقسيم العمل بينهم، كل ذلك أضفى على مصر طابعا خاصا من الحياة المستقرة التعاونية، وهنا نمت المدنية بل الحضارة فى صورتها الاولى الاصيلة. وعندما فكر المصريون فى عالمهم الاخر وما يتصل من فكرة الخلود الابدية واستمرار الحياة وتجددها على ضفاف النيل، قاموا بإنشاء معابدهم ومقابرهم من الحجر الذى يبقى وليس من الطين. كان الفن المصرى بسيطا فى تشكيله ولكن عميق فى افكاره. تلك هى الثقافة المصرية التى ربطت بين الحياتين الاولى والاخرة، وبين العمل الفردى والجماعى ذلك الذى بنى المدنية والحضارة فى مصر وكل أثارنا تدل على ذلك. لقد كان الانسان المصرى انسانا نظاميا يعرف المجتمع حقه حيث اعترف بدور الحكومة وتكيف بارتباطه بالجماعة.

أما عن الدين فقد تم تداول صوره من مصر القديمة الى مصر المسيحية ثم مصر الاسلامية بسلوك دينى منتظم من رحابة الفكر وعدم التعصب. فقد مثل لهم قيمة روحية قبل ان يكون عقيدة وعاش من أجل آخرته التى آمن بها. فاحتضنت مصر المسيحية وآوتها وقامت الكنيسة القبطية فيها ودافعت عن الحرية فى وجه الطغيان الرومانى وانتقل الرهبان الى الصحراء ليعبدون الله بعيدا عن السلطان. كما احتضن الانسان المصرى الاسلام وتبناه وصبغه بالصبغة المصرية السمحة التى تبنى على المحبة والتآخى بين الناس لا فرق بين مسلم وغير مسلم  ونشر قيمه بفكره الاصيل حيث تم تداوله بين الاجيال المتعاقبة.

أما عن اتصال مصر الوثيق بالثقافة العربية فقد كانت دوما جزءا اصيلا من حياة الشعب العربى بموقع يتواصل من جنوب غرب اسيا الى شرق افريقيا وشمالها الغربى والتى أصبح لها وعاء ثقافى وفكرى واحد هو اللغة العربية. كما كان لموقع مصر الجغرافى دورا كبيرا فأطلت منه لمجال اوسع وأرحب وهو مجال البحر المتوسط وما وراءه وأقامت الصلات معه على اساس العطاء والاخذ وحدث تزاوج مع الفكر اليونانى القديم، كما أخذت عن الحضارة الاوربية الحديثة ما أغنى فكرها دون ان تتخلى عن اصولها العربية والاسلامية. وتم بناء المعرفة والعلم بوسائل تلائم ظروفنا الخاصة. وللحديث بقية…

———-

استاذ بعلوم القاهرة

[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى