يقع الخلاف والشقاء بين الأشقاء عندما يجور بعضهم على بعض وعندما يتدخل طرف خارجي لا يريد إصلاحًا ولا خيرًا. تلك قاعدة لا يختلف عليها إثنان لكن يحدث أن لا نرى أحيانا تلك الحقيقة في وقتها فتجري الأمور بما لا نحب ولا نشتهي. استغل بيترسون آخر حاكم إنجليزي الخلاف على موارد البلاد بين جنوب السودان وشماله زارعا بذور الفيدرالية واللامركزية ثم استغل جون دانفورث المبعوث الأمريكي للسلام هذا الخلاف بجانب أسلمة المجتمع التي جاء بها إخوان السودان وتحت شعار الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان جرى شطر السودان إلى نصفين. منذ إزاحة البشير إلى الآن جاء فولكر بيرتس الألماني وجيفري فيلتمان الأمريكي بلعبة جديدة اسمها قواعد الانتقال الديمقراطي لخلق جيش مواز للجيش الوطني السوداني لإضعاف السودان ونهب موارده. في هذه السلسلة سنتعرف على ما يجري في السودان وتداعيات ذلك على المستويين الإقليمي والدولي.
يصور الإعلام الغربي ما يحدث في السودان الشقيق على أنه خلاف وصراع على السلطة بين جنرالين وقوتين عسكريتين؛ ويتصل المسئولون الغربيون بالطرفين؛ أي أنه يعترف بالاثنين ويعطيهم مركزين قانونين على قدم المساواة لكي يعطي لنفسه فرصة التدخل لفرض شروطه للمصالحة تمهيدًا لإدخال قواته تحت حجة المسئولية في حق حماية المدنيين. ويختزل الغرب أن الصراع الدامي الآن هو بسبب أن الشعب السوداني الشقيق في توق للحرية بعد 30 عامًا من ديكتاتورية الإخوان البغيضة وهذا حق لكن يراد به باطل فالإخوان صنيعتهم وعملاؤهم ويزعم أن الجيش يريد الاستحواذ على السلطة في مقابل قوات الدعم السريع التي تدافع عن التحول الديمقراطي في حين إن قائدها لديه ابتدائية وجل أفرادها لا يعرفون القراءة ولا الكتابة.
في ظل هذا الاختزال المتعمد ينشغل الناس بتفاصيل المعارك اليومية ويغفلون عن حقيقة ما يجري وأهدافه. الحقيقة أنه لم تجر إزاحة البشير بالثورة من أجل الحرية والتغيير والديمقراطية فنظام البشير الذي كان يضم آلاف العناصر الإخوانية كان جاثما بقوة على صدر السودانيين لكن عندما قبل الكيزان بشروط صندوق النقد الدولي فجرى رفع الدعم عن كل شيء حتى الخبز الذي تضاعف سعره 3 مرات فخرج الناس يشكون المجاعة وساندهم الجيش للحفاظ على ما تبقى من السودان موحدًا.
ركبت العناصر الموالية للغرب ومن يطلق عليهم النشطاء الموجة الثورية وشكلوا أحزابا وتحالفات تحت مسميات عديدة للاستحواذ على السلطة وملئوا الدنيا ضجيجا. تدخلت الأمم المتحدة بدعوى القلق على السلام وبدفع من الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج لتشكيل ما يسمى بالترويكا. دون مشاورة أحد اختار أنطونيو جوتيرش الأمين العام للأمم المتحدة “فولكر بيرتس” الألماني الجنسية لقيادة فريق الأمم المتحدة لتحقيق المصالحة في السودان. لم يكن أحدًا يعرف أن فولكر كان مساعدًا لبريمر الحاكم الأمريكي بعد احتلال العراق والذي قام بحل الجيش العراقي في أول قرار له. ولم يكن أحدًا يعرف أن فولكر كان واضع خطة تقسيم سوريا.
بمساعدة جيفري فيلتمان مدير الشئون السياسية والرجل الثاني في الأمم المتحدة وهو أمريكي والذي كان له دور في التنسيق بين السلطة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي وفي محاولة استقلال كردستان العراق وفي ثورة الأرز في لبنان؛ جلس فولكر بين الفرقاء السودانيين. على مدار 4 سنوات تمت مناقشة كل القضايا الشكلية مثل أسلوب التحول الديمقراطي وتشكيل حكومة تكنوقراط وكيفية إجراء العدالة الانتقالية والتخلص من نظام الكيزان ..إلخ لكن لم تجر مناقشة القضية الجوهرية هي ألا يكون هناك جيشان. كانت هذه المدة مقصودة لكي تقوم قوات الدعم السريع بتعزيز نفسها بتجنيد الآلاف وشراء أسلحة جديدة منها مضادات للطائرات الحربية.
لاننسى أن هذه الخطة جرى تطبيقها في العراق وسوريا واليمن وليبيا وهي استنساخ للحرس الثوري الإيراني فحدث ما حدث في هذه البلاد الشقيقة. شكلت قوى الحرية والتغيير الحكومة واستحوذت على كل المناصب وضمت إليها أحزاب صغيرة وجميعها ليست لديه قاعدة شعبية حقيقية بخلاف حزب الأمة السوداني بقيادة عبد الله حمدوك وهو موظف رفيع المستوى في الأمم المتحدة. كان تشكيل الحكومة صادمًا لكل القوى الحقيقية في السودان التي لجأت للجيش فطلب البرهان من حمدوك تشكيل حكومة أكثر احتراما للتوازنات القبلية والقوى السياسية الحقيقية فرفض حمدوك فأقيلت حكومته ولم يقال هو ووضع تحت الإقامة الجبرية؛ حتى لا يتم تقسيم السودان مرة أخرى.
وصف الغرب ما حدث بالانقلاب وشكل مجلس سيادة جديد. كان الجيش يريد إجراء انتخابات عامة لكن قوى الحرية والتغيير مدعومة بحميدتي رفضت. هنا بدأت تتكشف خيوط المؤامرة فطلب الجيش أن تجري مناقشة دمج قوات الدعم السريع بحيث يكون هناك جيش وطني واحد في البلاد يقود المرحلة الانتقالية وإجراء الانتخابات. وضع حميدتي 5 شروط تعجيزية هي أن يتم دمج قواته بعد 10 سنوات وليس بعد سنتين كما يطلب الجيش وأن تكون تقاريره الأمنية لا تمر عبر الجيش وأنه يحق له الترشح في الانتخابات لمنصب رئيس الجمهورية وأن تكون له قاعدة جوية على الحدود المصرية الليبية بحجة مكافحة الهجرة غير الشرعية بطلب الاتحاد الأوروبي الذي قدم له أموالا ضخمة لهذا الغرض وأن تجري إقالة وزير الداخلية السوداني الذي اكتشف أن حميدتي كان يقوم بمشروع ضخم لتجنيس مليون أفريقي من الدول المجاورة لضمهم إلى قوات الدعم السريع.
ولأن حميدتي كان يعرف أن الجيش الوطني السوداني سيرفض هذه المطالب استغل الفرصة وقام بالهجوم للاستيلاء على مراكز السلطة في الخرطوم حيث كان يضمن أن قوى الحرية والتغيير التي انقسمت إلى 3 أقسام ستؤيده ومن ثم سيؤيده الغرب بحجة أنه الخيار الديمقراطي الذي يريده السودانيون ويحقق أهدافه في استغلال موارد السودان من النفط الذي استحوذ عليه الصينيون وطردوا “شيفرون” الأمريكية وإضعاف النفوذ الروسي ومنع إقامة قاعدة لهم على البحر الأحمر بجانب موارد السودان الأخرى وأهمها على الإطلاق “الصمغ العربي”.