مقالات الرأى

محمد محمود عيسى يكتب: معاش مبدع

أخذنا الحديث من السياسة إلى الحالة الاقتصادية الخانقة التي تحيط بالناس من كل جانب وتعصف بالجميع تحت مقصلة الأسعار الطاحنة وفوضى الأسواق وعصابات الاحتكار والتي بلغت من قسوتها أنها جعلت أصحاب الدخل الثابت من مرتب أو معاش أو وظيفة محدودة يشعر بالمهانة أمام أسرته وأمام نفسه من زيادة وارتفاع متطلبات الحياة وتكاليف المعيشة وعدم قدرته على اللحاق بسباق الأسعار الغير شرعي والغير أخلاقي والغير إنساني ومع صمت وعجز الحكومة وإن شئت فقل فشلها الشديد أمام غزوات التجار واحتلالهم القاسي والمهين لتفكير وجيوب المصريين فيما يشبه الصمت العاجز عن حماية كل هذه الطبقات المتعففة والتي تحاول جاهدة وبكل ما تملك أن تحافظ أو تتمسك بما تبقى من مسمياتها أمام المجتمع أيا كانت هذه الطبقات أو بالفعل محدودة الدخل أو ثابتة الدخل ووضعتها الأزمة الاقتصادية القاسية أمام تحديات ضخمة مع نفسها ومع مصداقيتها ومع قيمها ومع حبها وانتماءها ودفاعها عن البلد وإيمانها المطلق بأداء رسالتها وتكملة دورها في المجتمع ولكن بدلا من التركيز الشديد والتعمق التام في دراسة وتحليل مشكلات الدولة والمجتمع والبحث عن حلول جذرية وقاطعة لها أجبرتهم الأزمة الاقتصادية الطاحنة والخانقة أن يستقطعوا جزءا من وقتهم وطاقتهم العقلية والفكرية والأدبية لكي يبحثوا عن حلول لأزمة السكر

جلس الكاتب والمفكر الكبير وبعد أن أخذ الموضوع والنقاش جانبا كبيرا من السياسة والوضع المجتمعي وبعد أن دخل النقاش جانب الاقتصاد والأزمة الاقتصادية الخانقة أخرج الكاتب والمفكر الكبير من جيبة سبعين جنيها وأقسم أنه لا يملك في جيبه غيرها حتى موعد صرف معاش الشهر التالي.

ذكرني هذا المشهد الحزين بمشهد آخر لأحد الأدباء والشعراء الكبار وهو يقطن في إحدى محافظات الوجه القبلي وأنا أساله ذات مرة مرة لماذا لا تشارك في المعارض والمنتديات في القاهرة أو حتى تأتي لتشارك في الندوات واللقاءات الأدبية في محافظة أسيوط صمت الشاعر والأديب الكبير الموهوب ولم يجاوب على السؤال ولكنني علمت من بعض المقربين منه وإليه أنه لا يستطيع أن يشارك في هذه السفريات البعيدة بسبب تكاليف السفر وارتفاع أسعار تذاكر القطار وهو يعاني من ظروف مادية صعبة لا تمكنه من السفر واستخدام القطارات والصرف على تكاليف المعيشة في الأماكن التي تقام فيها هذه الندوات واللقاءات الأدبية .

تناولت حبة أخرى من مسبحة الأسى والأحزان وتذكرت أيضا منذ سنوات قليلة قصة الشاعر الصعيدي الكبير والذي كان يعاني من ظروف صحية قاسية وصعبة وتطلبت حالته الصحية أن يدخل المستشفى لإجراء عملية طبية ضرورية ولكن تكاليف العملية الجراحية كانت فوق استطاعته ومقدرته وتطوع بعض زملائه لجمع تبرعات من أهل الأدب والشعر لإجراء هذه العملية الضرورية للشاعر الكبير ولما طال الوقت مات الأديب والشاعر الكبير قبل أن يقوم بإجراء العملية الجراحية

مسبحة الأحزان طويلة وحباتها لا تنتهي ولا تريد أن تصل إلى نهايتها عندما حكت لي أختي الدكتورة سحر عن أحد الشعراء الموهوبين وهو يعمل في أحد المقاهي البسيطة في إحدى محافظات الصعيد لكي يستطيع الإنفاق على نفسه وأسرته شاعر وأديب كبير يعمل في مقهى يقدم الشاي والشيشة للناس لكي ينفق على نفسه وأسرته.

قصص وحكايات كثيرة من مسبحة الحزن والأسى عن أحوال الكتاب والمفكرين والأدباء والشعراء ما بين قسوة الحياة وظروف المعيشة الصعبة والقاسية وهنا أتساءل بصوت وضمير مسموع

أولا وقولا واحدا لا نقاش ولا فصال فيه أنه لا خير في أمة لا تكرم ولا تقدر أدباءها وشعرائها ولا تنزل أهل الفكر والرأي منازلهم من التقدير والتكريم

ولا خير في أمة لا تجعل أول ركيزتها الأساسية في التنمية والبناء والحضارة هي ركيزة العلم والفن والأدب والفكر والرأي ولا تجعل من حضارتها المعنوية أساسا لبناء نهضتها وتقدمها المادي والمعماري ولا خير في بناء مدينة من غير بناء إنسان وإكرام العلماء والأدباء وأهل الفكر والرأي والخبرة والمشورة من شيم الكرام وإذا كانت الدولة والحكومة لا تلتفت لكل هؤلاء الأدباء والشعراء وأصحاب الفكر والراي ولا تعمل جاهدة على تحسين ظروفهم وأحوالهم المادية والمعيشية فكيف ترتقي الدولة وتنهض ولكي نسهل على الحكومة قرارها ورعايتها لهؤلاء الأدباء والشعراء نقترح عليها أن تعتبرهم من ذوي الاحتياجات الخاصة فلربما تكون الموهبة في نظر الحكومة إعاقة

لقد وجه السيد رئيس الجمهورية بعمل صندوق لرعاية ذوي الاحتياجات الخاصة ووجه بدعمه بمبلغ عشرة مليارات جنيه وعلى ذلك فنحن نطالب الحكومة بضم الشعراء والأدباء لهذا الصندوق وهو يصرف على نفقاتهم المعيشية وتكاليف مرضهم وعلاجهم او أن تسعى الحكومة وتجتهد من خلال وزارة الثقافة الحاضرة الغائبة في الاهتمام بكل هذه الفئات من خلال حصر أندية الأدب والشعر وأصحاب الصالونات الفكرية والسياسية وضمهم لوزارة الثقافة وتوفير وتقديم كل أوجه الدعم المادي والأدبي من خلال تقديم معاش مجزي وكبير يضمن لهؤلاء عيشة عزيزة كريمة ولو على غرار معاش حياة كريمة ويكون تحت مسمى ” معاش مبدع ” وضمهم في برامج علاجية من خلال التعاقد مع المستشفيات والمراكز الطبية الكبيرة لتقديم جميع الخدمات الطبية والعلاجية للمفكرين والأدباء والشعراء من خلال بطاقة الخدمات المتكاملة شبيهة البطاقة التي تصرف لذوي الاحتياجات الخاصة أو حتى مساواتهم في الخدمات مع ذوي الاحتياجات الخاصة .

معاش مبدع لا يجعل الكاتب والمفكر الكبير يخرج من جيبه سبعين جنيها وهو ينتظر معاش الشهر التالي لكي يواصل مسيرته في المعيشة والحياة

معاش مبدع يجعل الشعراء والأدباء يسافرون بين المدن والبلاد ويشتركون في المعارض والندوات لنشر العلم والشعر والأدب

معاش مبدع يضمن للكاتب والمفكر والشاعر والأديب حياة كريمة تليق به وبفكره وعطاءه وتضمن له أن يتفرغ للإبداع والفكر والراي والفن والأدب وتقدم للدولة كتيبة ضخمة وقوية من أفراد وقادة قوتها الناعمة.

زر الذهاب إلى الأعلى