قراءة متأنية فى كتاب “مستقبل الثقافة فى مصر العربية” للدكتور سليمان حُزين (7)
قراءة يكتبها : د.حامد عبد الرحيم عيد
تحدثت فى المقالات السابقة عن الخمسة فصول الاولى من كتاب “مستقبل الثقافة فى مصر العربية” للدكتور سليمان حُزين وجاءت بالترتيب: “جذور الثقافة فى مصر العربية”، “ثقافة مصر فى مسيرتها مع الحضارة والتاريخ”، و”ثقافة مصر العربية المعاصرة والمؤثرات الداخلية والخارجية بها”، وجاء الفصل الرابع بعنوان مهم حول “المتغيرات المعاصرة فى الغرب والشرق وفى العالم العربى” وكيف كان صداها المرتقب فى الفكر والثقافة، ثم الفصل الخامس وعنوانه “تتابع أجيال الثورة فى مصر العربية المعاصرة” عن بحث مقارن فى دراسة الشخصية الثقافية وتاريخ الحضارتين القديمة والحديثة فى بلدين عريقين هما: مصر والصين، وتم فيه توضيح الفرق بين الشخصية الحضارية لكل من مصر والصين.
وفى هذا المقال نتحدث عن الفصل السادس الذى جاء بعنوان “مشروع ميثاق العمل الثقافى فى مصر” وفيه نلقى الضوء على المشروع الذى قدمه د.سليمان حزين عام 1980 للمجلس الاعلى للثقافة وتم اعتباره اساسا للعمل الثقافى بين رجال الفكر وأهل الثقافة فى مصر. يتضمن مشروع الميثاق ثلاثة محاورهى: أولا:إعلان الميثاق، ثانيا: فى الاعتبارات والمبادىء الاساسية، ثالثأ: فى منهاج العمل الثقافى لبناء مصر المستقبل.
يبدأ مشروع الميثاق بالديباجة المعتادة لاعلانه “نحن رجال الفكر والثقافة فى مصر العربية، المجتمعين فى مؤتمرنا الاول بالمجلس الاعلى للثقافة” إيمانا من ثقافتنا المصرية العربية الاصيلة، ويقينا بأن العمل الثقافى أمانة تؤدى، قبل ان تكون وظيفة تمارس، وانه حق وواجب وضريبة وشرف، وإدراكا منا بأن أمتنا المصرية العربية قد عاشت حياتها التاريخية بصدق فكرها وقوة إيمانها وصفاء روحها ورحابة ثقافتها فكانت اسبق المشاركين فى بناء ثقافة الانسان، واستمساكا منا بالعروة الوثقى فى العمل الثقافى الذى يعرف وحدة الفكر على اختلاف مستوياته، وتكامل الرأى مع إختلاف ألوانه، وترابط المشاعر الصادقة بين اهل الثقافة المصرية العربية الواحدة، وترسيخا لحرية الفكر والتعبير والاداء والنقد فى العمل الثقافى والتزاما بالموضوعية واحتراما للرأى الاخر بين المثقفين، وتأكيدا لدور مصر الرائد فى عالم الثقافة والفكر والفن والادب ودورها العربى والاسلامى التاريخى ودورها الانسانى، وانطلاقا بثورتنا المعاصرة على طريق البناء الحضارى فى مجالات المعرفة والثقافة بين المواطنين فى ارض الكنانة وفى آفاق عالمنا العربى الافريقى، بذلك كله ومن أجله، نُقر هذا الميثاق ونعلنه ونتعاهد على العمل به، ونشهد الله عليه والوطن والامة.
وجاء المحور الثانى بعنوان: “فى الاعتبارات والمبادىء الاساسية” فى 20 فقرة، حيث بدأه بالقول أن مصر هى أحد أوطان الحضارة الانسانية الاولى وموطن النور والمعرفة والعمل، وحيث أن العلم لا وطن له، فالمعرفة العلمية واحدة بالنسبة للانسانية جميعا، بينما الثقافة لها مفهوم آخر، ترتبط بتراب الارض التى تقوم عليها ويبنيها الشعب نفسه. لقد كان مجتمعنا العربى ولا يزال يجمع فى حياته بين العلم والايمان، فتلك هى معالم مصر الثقافية منذ قديم الازل، واليوم قد عادت الروح الى مصر المعاصرة قبل غيرها من الامم. لقد كانت الثقافة فى مصر نمطا للحياة ولسلوك الفرد المثقف فى مجتمعه مما ورثه من قيم وتقاليد، كما كان مبدأ الحرية هو حجر الزاوية فى بناء تلك الشخصية، فحريته حق من حقوقه الاساسية تولد معه كهبه من الخالق إلا انها تحتاج الى ضوابط تحكمها. فالعمل الثقافى أمانة فى عنق المثقفين ورعايته أمانة فى عنق من يمارس السلطة، فعندما نحدد واجباته علينا صيانة حقوقه من ملكية فكرية مع الحق فى الانفتاح الحر على الفكر العالمى نأخذ منه ما نشاء وما يلائم حياتنا ويثرى ثقافتنا. ويشهد التاريخ بأن ثقافة مصر قد امتازت على مر عصورها برحابتها وتنوعها بما يتوافق مع بيئتها حيث أضافت اليه بما لا يطمس وحدة فكرها فأوت الفكر الاسلامى كما أوت المسيحية من قبل وحتى العصر الحديث فصارت نموذجا للفكر الانسانى المتطور وجمع بين الاصالة والمعاصرة والتجديد. وهنا لا بد أن يتجه الاصلاح الى مكامن القوة فى حياتنا الفكرية والثقافية وسبيلنا فى ذلك ما سار عليه الاجداد حين جمعوا بين الفكر والعمل والدقة والاتقان. ولا بد أن نقر أن آفة الثقافة والعمل الثقافى فى مصر الحديثة أننا فرقنا بين العمل التعليمى والعمل التثقيفى فى معاهدنا الدراسية وحتى فى وسائل الاتصال دون أن نربى ملكات التذوق والاحساس بالحياة وجمالها، وهنا لا بد من التأكيد على أن العمل الثقافى وصناعته هو من صميم مسئولية الافراد والجماعات والهيئات على ان تضطلع الدولة بواجب الرعاية والخدمات.
وفى المحور الثالث وهو “فى منهاج العمل الثقافى لبناء مصر المستقبل” ويأتى فى 26 فقرة تبدأ أن العمل الثقافى فى مصر قد تميز بثلاث ميزات كانت السبب فى استمراره مع الزمن وهى: الجدية، الدقة والاتقان. فالجدية تقوم على الصدق مع النفس مع اتخاذ الاسلوب الجاد فى العمل، أما الدقة فهى قاعدة اساسية قامت عليها بناء الحضارة والثقافة فى مصر وتمتد للبعد المكانى والزمنى والذى كان اول من عرفته فى فنون عمارتها وبناء هياكلها وعلى سبيل المثال فقد استطاع المصرى القديم أن يضُمن بناء الهرم أعمق فكر وأقدمه وهى “فكرة الخلود”، بالاضافة الى دقة التصوير والتعبير. أما عن الاتقان فهو لُب الابداع لاى عمل ثقافى وبدونه تفسد الصورة بل يفسد العمل نفسه. لقد بات العمل الثقافى اليوم يعتمد الاسلوب العلمى فى التصميم والتنفيذ والاداء وبدون ذلك يصبح عملا سطحيا وعرضيا زائلا لن يذكره التاريخ. ولأن الثقافة حياة والحياة هى حركة وتطور لذا يتوجب أن تكون برامج عملنا الثقافى برامج حية ومتحركة من خلال رحابة الفكر واتساع النظرة، فالثقافة اليوم ليست فقط لهذا الجيل ولكن للاجيال المتعاقبة والمستقبل والتاريخ. ولكى نفعل ذلك علينا الالتزام بقدر مشترك يتوفر للمواطنين من مقومات الثقافة الوطنية والقومية تلتزم فيه الدولة وجماعات المثقفين. فمفهوم العمل الثقافى ومقوماته ومسئولياته يحتاج الى مزيد من التوضيح فهو مسئولية مشتركة متضامنة ومتكافلة، وهذا العمل لا يجب أن يقف عند حد المعرفة ونشرها بل لابد من يؤدى بالعقل والحكمة والمعرفة وبالضمير وبالاخلاص مع مراعاة مقوماتنا الحضارية من الدين والاخلاق والقيم الاجتماعية التى هى أساس حضارتنا وهى متأصلة فى مجتمعنا. إن محصلة هذا العمل الثقافى ينبغى ان يشارك فيه كل مصرى مهما تواضعت مشاركته ومهما كان مستوى تعليمه. لقد تغيرت اليوم أدوات الثقافة فحق الكتابة والقراءة هو أبسط حقوق الفرد فى المجتمع فلا بد من نهضة شاملة لمحو تلك الأمية التى استشرت بين المصريين بإعلان التعبئة الشعبية ودعم المثقفين. إن الامر لا يقتصر على أمية القراءة والكتابة لكن يتعدى الى الامية الثقافية من طائفة المتعلمين فالتعليم لا زال حتى اليوم يُعلم ولا يثُقف. إن الكلمة المكتوبة مهما مر الزمن وزادت وسائل الاتصال ستظل الاساس للعمل الثقافى الذى يتناقله الناس من زمن لزمن، فقد تضاعفت خطورة الكلمة المكتوبة اليوم وعلى وجه الخصوص الصحافة فمسئولية الصحفى فى إحداث الأثر وتحقيق الرسالة سيظل دائما حيا فى وجدان القراء. كذلك فكلمة المسرح من الاهمية بمكان رعايتها والتى شهدت تراخى فى حركته. كما إن الاهتمام بالفنون التشكيلية وفنون النحت والعمارة لابد من النظر اليه والاعتمام به فقد سبقت مصرالعالم كله فى هذه الفنون وأثرت فى ثقافة المصريين وتهذيب أذواقهم. أما عن الموسيقى والتى تم توارثها منذ قدماء المصريين فعلى اصحاب الذوق الموسيقى اليوم أن يجدوا سبيلهم للتركيز على النغم الاصيل، وكذلك الغناء والذى كان ولا يزال له شأن وتأثير كبير فى حياتنا القومية والوطنية والعاطفية.
هذه ثقافة مصر المعاصرة، والتى كتب مشروعها د. سليمان حزين فى عام 1980، بكل ما فيها من انجاز بغرض تجديد الماضى واستشراف المستقبل، وهذه ثقافة مصر المعاصرة بما تم رسمه لها برغبة ملحة لتلمس طريق التجديد والبعث وعودة الروح.
استاذ بعلوم القاهرة
[email protected]