قراءة فى كتاب “مستقبل الثقافة فى مصر العربية” للدكتور سليمان حُزين (11)
بقلم - د.حامد عيد
“مشروع الاصلاح الجذرى للتعليم فى مصر”
تحدثت فى المقالات السابقة عن التسعة فصول الاولى من كتاب “مستقبل الثقافة فى مصر العربية” للدكتور سليمان حُزين وجاءت بالترتيب: “جذور الثقافة فى مصر العربية”، “ثقافة مصر فى مسيرتها مع الحضارة والتاريخ”، “ثقافة مصر العربية المعاصرة والمؤثرات الداخلية والخارجية بها”، “المتغيرات المعاصرة فى الغرب والشرق وفى العالم العربى” وكيف كان صداها المرتقب فى الفكر والثقافة، “تتابع أجيال الثورة فى مصر العربية المعاصرة”، “مشروع ميثاق العمل الثقافى فى مصر”، وكان الفصل السابع بعنوان “فلسفة المعرفة والتعليم فى مصر عبر العصور”، وجاء الفصل الثامن بعنوان”التربية السياسية: تنمية الشعور الوطنى بالانتماء والمسئولية”، ثم “دور التعليم فى تنمية الفكر القومى فى مصر المستقبل”
وفى مقال اليوم، نأتى الى الفصل العاشر من الكتاب والذى جاء بعنوان “مشروع باصلاح جذرى للتعليم فى مصر العربية” وهو عن تقرير اعده د. سليمان حُزين وتم عرضه على المجلس القومى للتعليم والبحث العلمى والتكنولوجيا فى يونيو 1992، حيث بدأه بسرد تاريخى حول منظومة التعليم فى مصر والتى بدأت فى القرن التاسع عشر بتسلم “محمد على” مقاليد الحكم وادخاله التعليم الحديث إلا أنه اوجد تزاوجا لنظامين متوازيين وهما: التعليم الازهرى والتعليم الحديث. وكان ان أنشأ مدارس عليا فى الهندسة والطب البشرى والبيطرى من أجل خدمة الجيش وتطور أكثر بوجود “على مبارك” وزملائه فى النصف الثانى من هذا القرن. وفى ظل الاحتلال البريطانى سار التعليم الحديث بغرض تخريج موظفين للحكومة حتى بداية القرن العشرين عندما بدأ التفكير فى انشاء الجامعة الاهلية، التى كانت بمثابة الشرارة الاولى لقيام الجامعة المصرية عام 1925. وعندما جاءت ثورة 1952 ظهرت نهضة جديدة وشاملة فى التعليم كله وشملته المجانية حتى التعليم الجامعى. وفى عام 1974 تم انشاء المجلس القومى للتعليم والبحث العلمى والتكنولوجيا الذى بدأ فى دراسة تحسين العملية التعليمية وخلال 19 دورة اصدر 19 تقريرا شمل 180 بحثا عن تطوير المنظومة التعليمية بالاضافة الى 70 بحثا آخر شملتها موسوعة المجالس القومية المتخصصة.
إلا أن ما طرأ على العالم من تغييرات فكرية وسياسية كان له أثرا فى اعادة النظر بصورة جذرية فى تطوير منظومة مصر التعليمية حتى لاتتخلف عن ركب النهضة العالمية بحيث يتناول دور التعليم فى بناء الحياة الفكرية والقومية الجديدة حيث تم فى التقريرعرض العديد من الاعتبارات والتوصيات منها العامة ومنها التى تتعلق بمراحل التعليم المتتابعة ومنها الاجرائية.
كان من اهم الاعتبارات التى جاءت فى التقرير ان حرية المجتمع هى اساس كل الحريات فهى اساس للحياة القومية السوية كما ان حرية الطلاب الفردية هى اساس ايضا للتربية الاستقلالية ولا تكتمل بدون الديمقراطية حتى يصبح ابنائنا مواطنين احرار ولابد من ممارستها بدءا من المدرسة والجامعة. كما أن بناء القدوة يؤدى الى تماسك اجيال الامة وابراز قادة للفكر والثقافة كمنتج من التعليم فى جميع مراحله. وهنا لا بد من توجيه العناية فى توفير فرص التعليم بشكل اكبر للفتيات. كما ان الامر يتطلب فك الاشتباك بين التعليم وواجب الدولة لتوظيف الخريجين. كما أن تدعيم نظام تربية الفكر وتنمية الابتكار بديلا عن نظام الحفظ والتلقين لهو امر هام من أجل مستقبل البلاد. أضف الى ذلك الامية كمشكلة تعوق الوطن سواء أمية القراءة أو الثقافة. ويقول د. حُزين فى تقريره عن “مجانية التعليم” أنها مبدأ سليم فى حد ذاته إلا انه زاد من عبء الدولة لتحمله كاملا مما جعلها تعجز عن رفع مستوى المعلم وترتفع بأجره الى قدر معقول حتى باتت مهنة التعليم فى ذيل قائمة المهن، وانتشرت الدروس الخصوصية فكادت “مجانية التعليم” وسوء تطبيقها أن تُضيع مفهوم “تكافوء الفرص” مما أصاب حياتنا التعليمية فى الصميم وطالب بمراجعة الدستور فى هذا الشأن على أن تقتصر مجانية التعليم على مرحلة التعليم العام الاساسى والثانوى دون ما بعده، كما وضع حلولا لاصلاح وباء الدروس الخصوصية بأن تتولى المدرسة تنظيم دروس للتقوية مع تعديل مرتبات المعلمين .
وعندما تناول التقرير للتوصيات التى يجب أن تتبعها الدولة والخاصة بمراحل التعليم المتتابعة من أجل التطوير الجذرى فقد رؤى أن تبدأ بالطفل فالعناية به هى المدخل الصحيح للعناية بالجيل الوليد من خلال اهتمام الدولة والبيت فى آن واحد . وبالنسبة للتعليم الإلزامى فقد أكد أنه لاحداث التطوير الجذرى المنشود لابد أن يكون السلم التعليمى 9 سنوات للمرحلة الاساسية المشتركة + 3 سنوات للمرحلة الثانوية وما يعادلها على أن يضاف عند قاعدته مرحلة تحضيرية للتلاميذ من سن 4، 5 سنوات (مرحلة رياض الاطفال). وعن العام الدراسى فقد أوصى التقرير بأن يبدأ بكل حزم السبت الاول من سبتمبر لكل عام ولا يجوز ان ينتهى قبل آخر يونية من العام التالى (أى عشرة شهور يقضى التلميذ منها شهرا فى عطلة نصف العام وفى أداء الامتحان النهائى) على الا يقل اليوم المدرسى عن ثمان ساعات يقضيها التلميذ فى الدراسة والنشاط. وعن التعليم الفنى فقد دعا الى تعميم مدارس السنوات الخمس مع زيادة نسبة ساعات التدريب والتطبيق العملى مع تشجيع تبادل الخبرات بين تلك المدارس وجهات الصناعة أو الزراعة أو التجارة أو الادارة على حسب نوع التعليم الفنى.
وتطرق التقرير بشكل موسع الى ذلك التطوير الجذرى للعملية التعليمية والبحثية فى الجامعة المصرية بعد التطورات الكبرى التى شهدتها الجامعات العالمية والتى اتسع نطاق العمل بها ليشمل بجانب التربية والتعليم، البحث العلمى ودخول الجامعات كطرف أصيل فى مجال الفكر والقيادة الفكرية على المستوى الوطنى والعالمى مع ربطها بمشكلات البيئة وخدمة المجتمع. إن الاتجاه العالمى اليوم فى تولى الجامعات والمعاهد العليا تكوين جيل من الخريجين يخدم النهضة الحضارية بنوعية حديثة من التعليم المرتبط بأحدث المعارف التى وصلت اليها الابحاث مع التأكيد على أهمية تبادل الخبرات العالمية وزيادة البعثات الدراسية للدول المتقدمة علميا وتجديد التواصل مع الجامعات الاجنبية ذات الشأن. كما نادى التقرير بأن تقوم الجامعة المصرية بالمشاركة فى توجيه الفكر القومى ليس بفرادى الاساتذة بل بمجالس هيئات التدريس ونواديهم. إن الاتقان والتجويد هما لب أية نهضة فى التعليم الجامعى فلا يمكن لجامعة الاعداد الكبيرة التى باتت سمة فى معظم الجامعات المصرية أن تتقن وتجود فى مهامها العلمية والبحثية.
وأنتهى التقرير الى عدد من التوصيات الاجرائية من أجل أن يأتى الاصلاح المنشود بأقصى طاقة وعلى مراحل تواكب النهضة العامة وتترسم مؤشرات مسارها خلال الجيل القادم وحتى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين منها أن تتولى وزارة التعليم مراجعة هذا التقرير فى مراحله المتتابعة للعملية التعليمية، وبالنسبة للجامعة المصرية أن يتولى المجلس الاعلى للجامعات وأمانته العامة مع مجالس الجامعات مراجعة هذا التقرير ووسائل وضع الاتجاهات المقترحة موضع العناية، وأن يقوم الازهر الشريف وهيئاته المختلفة بمراجعة كل ما يتعلق بالتعليم الازهرى العام والجامعى، وأن تُعنى وزارة التعليم العالى باستعراض ما جاء فى هذا التقرير بشأن التعليم الجامعى فى الجامعات والمعاهد المختلفة.
———
استاذ بعلوم القاهرة
[email protected]