لقد تطورت الإنشاءات والمباني في سيناء “شأنها شأن القرى والمحافظات المصرية” بعد أن تحولت من الطوب اللبن “النيء” إلى الطوب الآلي الحديث والحجري.
ويقول محمود حسن الشوربجى الباحث في تاريخ سيناء وجغرافيتها وتراثها إن البيوت الطينية المبنية من الطوب اللبن أو النيء هي الجزء العتيق من مدينة العريش وقلب العاصمة الشمالية لشبه جزيرة سيناء، والتي تقع فوق ربوة تطلّ على البحر المتوسط وتمتدّ على نحو ثلاثة كيلومترات من خط وأدى العريش شرقا الممتد من شمال المدينة إلى جنوبها والممتدة غربا إلى قلب أحياء مدينة العريش القديمة، وهي الأحياء السكنية التي تقع حاليا حول قلعة العريش الأثرية، والتي كان يسكنها الحضر من العائلات الحضرية بالعريش عاصمة شمال سيناء.
وتابع: يقال إن فن المعمار قد يؤرخ لوعى الشعوب ويكرس مفاهيم التعامل مع البيئة وظروف عناصر الطبيعة، ومن هنا كانت بيوت الطين السيناوية التي ميزت أهل العريش عن باقي مدن سيناء هي دلالة على صعوبة الحياة في هذه الصحراء التي لا تنتج إلا فصلين في العام: إما برد قارس يغديه هبوب الشمال، وإما حر لافح قاتل تهرب منه حتى الأفاعىن ومن هنا فكّر العقل المتعامل مع هذه الصحراء كبيئة صعبة وقاسية في إيجاد سكن يتلاءم مع مناخها، فوجد أن بيئته غنية بما يوفر له السكن المريح، وقام بتشييد بيته وبيت أسرته من الطين واستفاد من شجر البيئة ليوفر الراحة.
وأضاف أن البيوت الطينية السيناوية القديمة تعد حاليا من الآثار والتراث القديم الذي امتد إلى مئات السنوات حتى أصبح الآن نادر الوجود في ظل التطور البنائي السريع الذي انتشر في ربوع المدينة، ولم يتبقَ من هذه الآثار إلا بيوت قليلة جدا يكاد عدّها على الأصابع، وهي من تراث المدينة القديم.
وأشار الى انتشار المنازل المبنية من الطوب اللبن في العريش قبل انتشار السيارات في السنوات قبل عام 1800ميلادية، حيث كانت وسائل المواصلات وقتها إما الإبل أو البغال والحمير أو الخيل، وكان الأهالي يستخدمون الإبل والخيل في السفر، بينما كان يتم استخدام البغال والحمير داخل نطاق المدينة فقط، ولعل شكل المنازل التي سيتم سردها تفصيلا تعيدنا إلى زمن الأجداد وما قبلهم في حقبة زمنية قد تكون بدائية مقارنة بالزمن الحالي، ولكنها بلا شك كانت حياة هادئة وبسيطة ورائعة تسودها السكينة والقناعة والرضا.
ومن اللافت للنظر أن بيوت الطينة الموجودة حاليا في شوارع فرعية في أحياء العريش القديمة كانت كلها على نمط بنائي واحد وقاعدة إنشائية واحدة، مما يوحى بأن المدينة لم تكن يوما ما عشوائية البناء قديما، بل كانت أبنيتها على قواعد أساسية جعلت من البنائين المختصين يتوارثون طريقة البناء والرسم الهندسي جيلا بعد جيل، وأن بالرغم من وجود منازل قليلة جدا غير كاملة من الطين في السنوات الماضية كانت تضم غرفة واحدة فقط وباقي المنزل مصنوع من سعف النخيل، ولكن الغالبية العظمى كانت على نمط بناء واحد.
وأصبح الأمر شاقا للغاية في البحث والدراسة عن منازل طينية قديمة متبقية في أحياء العريش القديمة داخل كتلة سكنية مزدحمة بالطوابق الإسمنتية التي محت التراث القديم بلا رجعة، وذلك لبُعد هذه المنازل عن بعضها وندرتها، وتلاحظ أن أكثر الأحياء التي تقع فيها أطلال بيوت قديمة من الطوب اللبن هي الأحياء التي تجاور قلعة العريش، ومنها أحياء: الفواخرية والسمران والصفا والشرابجة والكشاف والسلايمة والأحياء الواقعة خلف ميدان الرفاعي، فضلا عن الكتلة السكنية الواقعة جانبي مجرى وادى العريش ومن أهمها حي: أبو صقل، تلك البيوت القديمة التي كانت عامرة بأجدادنا لمئات السنوات، وباتت في زوال الآن.
ووفقا للمصادر القديمة، فقد كان عصر بناء البيوت الطينية في أزهى صوره في عهد الدولة الخديوية وما قبلها، فقد أُنشئت تلك البيوت قبل مئات السنوات من سبعينيات القرن التاسع عشر ، وقد حدد المؤرخ نعوم بك شقير في كتاب وصف سيناء عدد البيوت التي تتواجد في مدينة العريش خلال فترة تأليف كتابه قبل سنة 1899ميلادية وكان عددها 600 بيتا ، واصفا المدينة وشكلها العام قائلا : شوارعها متسعة نظيفة ، وبناؤها بالطوب النيء والطين ، ولكن طوبها متين كالحجر ، ولكل بيت من بيوتها فناء مسور بباب عظيم لإيواء الإبل والخيل والغنم ، وكانت أسوارها مرتفعة جدٍّا حتى أن راكب الهجين في شوارعها لا يرى ما في داخل أفنيتها، وللبلدة سوق صغيرة بجانب القلعة .. فيها نحو 70 حانوتًا تباع فيها الأقمشة والحبوب والزيت والسمن واللحم والسكر والصابون والبُن وأصناف الفاكهة والخضر.
وتتفاوت مساحات البيوت الطينية القديمة في العريش ما بين 60 إلى 100 مترا مربعا على حسب مساحة الأرض، ويحيط البيت الواحد سور عالٍ ومرتفع يوضع أعلاه زجاج مفتت أو قطع مكسورة أو أسلاك شائكة كدروع حامية من تسلق اللصوص عليها، ويصل ارتفاع السور الخارجي إلى 7 أمتار، وهو أيضا مبنى من الطوب اللبن.
ووفقا لحديث الأجداد فإن الطوب اللبن مصنوع من خلال أداة بدائية من صندوق صغير توضع فيه عجينة الطين المخلوطة بالرمل وبعض التبن وغيرها من المواد ويترك أكثر من 25 يوماً تحت أشعة الشمس ثم يتم البناء به باستخدام خلطة البناء التي هي أيضا من الطين، ولعل أكثر الأماكن التي كان يتواجد بها الطين هي: منطقة بئر لحفن جنوب مدينة العريش والواقعة على مجرى وادى العريش.