مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: الخواتيم..القلب يعشق كل جميل!

0:00

يحتجُّ بعض الكَتَبَة المُغرضين، ومَن في قلوبهم ونفوسهم ومدادهم مرض، بمواقف مندفعة لبعض المشاهير المتقدمين من الإسلام؛ باعتبارها تشكل رؤيتهم “النهائية الخالصة” للدين الخاتم. ويسعى هؤلاء الماكرون من وراء التذكير بهذه المواقف وإعادة تدويرها إلى إظهار عدوانية هؤلاء السابقين للإسلام، واتخاذها دليلاً وبرهانًا على البقاء في دائرة الإساءة إليه، ويتجاهل هؤلاء المراوغون دومًا التنويه إلى أن هذا المواقف إنما جاءت في شرخ الشباب وفي مرحلة مبكرة من حياة أصحابها الذين تراجعوا عنها في الأخير، وندموا عليها، وأكدوا أنهم لو استقبلوا من أمرهم ما استدبروا ما اقترفوها. الاستشهاد المنقوص من سيرة بعض المفكرين والشعراء والأدباء البارزين يشبه دومًا سلوك مَن يردد قوله تعالى: “فويلٌ للمصلين” دون إكماله بالآية التالية: “الذين هم عن صلاتهم ساهون”، ويعكس تدليسًا مقصودًا وتلفيقًا متعمدًا للحقائق، كما إن الاحتفاء ببعض التجاوزات الصارخة بحق الإسلام من أشخاص –أيًا كانت كينونتهم- بعد مرور عشرات ومئات الأعوام، يعكس بلادة وترديًا في الفكر والعقل والضمير.
في المقابل..يحتفي الإسلام دومًا بالخواتيم ويعوّل عليها، فقد يسوء عمل إنسان في سنينه الأولى، ولكن سرعان ما يستعيد رشاده، فيهجر أوكار الخطأ إلى سبيل الرشاد. ومفهوم “حسن الخاتمة”.. يعني توفيق العبد قبل موته للابتعاد عما يُغضب الله سبحانه، والتوبة من الذنوب والمعاصي، والإقبال على الطاعات وأعمال الخير، ثم يكون موته بعد ذلك على هذه الحال الحسنة. ومما يدل على هذا المعنى ما صح من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إذا أراد الله بعبده خيرًا استعمله”، قالوا: كيف يستعمله؟ قال: “يوفقه لعمل صالح قبل موته”.
من الأسماء التي يتم الدفع بها دومًا في إطار التحريض على المعصية والشهوات والحياة اللاهية اسم الشاعر العباسي “أبي نواس” المعروف تاريخيًا بـ”شاعر الخمر”، حيث كان يُضرب به المثل في الشطط والخروج عن النص، وتعكس بعض أشعاره الأولى ذلك، غير أن أولئك الذين يقذفون باسمه وأشعاره في وجوهنا يتجاهلون عمدًا توبته وأوبته التي خلدتها أشعاره التي رددها قبيل احتضاره: تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي، فَلَمَّا قَرَنْتُهُ بِعَفْوِكَ رَبِّي، كَانَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا/ وما زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ تجود، وتعفو منّةً، وتكرما/ ولولاك لم يقدر لإبليس عابدٌ وكيف وقد أغوى صفيك آدما، وكذلك الأبيات التي وجدوها مكتوبة تحت رأسه بُعيَد وفاته: يَا رَبِّ إِنْ عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم/ أدعوك ربي كَمَا أَمَرْتَ تَضَرُّعًا فَإِذَا رَدَدْتَ يَدِي، فَمَنْ ذا يرحم/ إِنْ كَانَ لَا يَرْجُوكَ إِلَّا مُحْسِنٌ فَمَنِ الّذي يرجو المسيء المجرم؟/ مَا لِي إِلَيْكَ وَسِيلَةٌ إِلَّا الرَّجَا وَجَمِيلُ عفوك ثم أني مسلم.
يضرب هؤلاء المرجفون أيضًا باسم الشاعر الأموي “الفرزدق” المثل في حياة الشطط والمجون، وتشهد بعض أشعاره بذلك، ولكن الرجل في نهاية حياته ندم كثيرًا على ما اقترف من آثام، وخلَّد ذلك في أبيات رائعة من بينها قوله: أطعتُك يا إبليسُ سبعين حِجّةً فلما انتهىَ شَيْبي وتمَّ تمامي/ فرَرْتُ إلى ربّي وأيقنتُ أَنّني مُلاقٍ لأيامِ المنونِ حمامي، ولكنهم كالعادة يتجاهلون “الفرزدق التائب” ويحتفون بـ”فرزدق الخمر والنساء”، ويحرضون على التأسي به!
وطالما احتفى هؤلاء الماكرون ببعض أشعار أبي العلاء المعري المثيرة للجدل، وتحدثوا عما وصفوه بـ”إلحاده وزندقته”، واعتبروا فيلسوف المعرَّة نموذجًا لما يعتبرونه “العقلانية والتحرر”، ولكن الباحثين المنصفين يجمعون على أن أبا العلاء كان مؤمـنًا بالله، وليس في كتبه كلها، لا سيما الأخيرة منها، إلا ما هـو دعوة واضحة جازمة إلى الإيمان بالله تعالى”. ومما يُنسب إلى “المعري” في شأن إيمانه بالله قوله: رددتُ إلى مليك الناس أمري/ فلم أسأل: متى يقع الكسوف؟/ فكم سـلم الجهول من المنايا/ وعوجل بالحمام الفيلسوف، وقوله: فإن سألوا عن مذهبي فهو خشية من الله، لا طوقًا أبث ولا جبرا، وقوله: رب اكفني حسرة الندامة في العقبى، فإني محالف الندم، وقوله: الحمد لله قد أصبحت في دعةِ أرضى القليل ولا أهتم بالقوت/ وشاهد خالقي أن الصلاة له أجلُّ عندي من دري وياقوتي. وعُرف عن “المعري” أيضًا أنه كانوا صوَّامًا زاهدًا، غير أنه كان فقيرًا، فلم يقدر على زكاة أو حج.
وإذا ذُكر الشاعر الفيلسوف أبو العلاء المعري، فلا بد من ذكر الدكتور طه حسين، فهما يتقاطعان في أمور كثيرة وجسيمة؛ لا سيما مصيبة العمي. يحتفي الماكرون بالكتابات الأولى لعميد الأدب العربي ضد الإسلام والقرآن الكريم، والتي أثارت في وقتها جدلاً عارمًا، وأوقعته في دائرة اللبس والاتهام، ويعتبرونها نموذجًا متقدمًا للعقلانية يجب التأسي به، ولكنهم في الوقت ذاته يتعامَون تمامًا عن المرحلة الأخيرة من حياته الفكرية التى انطلقت من العام 1952، ويمكن تسميتها بـ: “مرحلة الإياب الفِكري الصريح والحاسم إلى أحضان الإسلام”. في هذه الحقبة.. أكد “صاحب الأيام” مثلاً على حاكميَّة القرآن الكريم، وأثنى على العلماء المجدِّدين، وزار الأراضى المقدسة فى العام 1955، وقال عند زيارة المسجد النبوي: “صليتُ في المسجد النبوي، وشعرتُ بسمو رُوحي، ووددتُ أنْ لا أبرحَ المسجد، أتابع صلاة الظهر بصلاة العَصر، فلا أُريد غِذاءً ولا طعامًا ولا شرابًا”، وبعدها.. وضع كِتابه: “مرآة الإسلام” فى العام 1959، الذي كشف فيه عن ألوانٍ من إعجاز النظم القرآني، وبعده بعام أنجز كتابه: “الشيخان”، كما أوصى بأن يُحفَر على قبره الذي دُفن فيه دعاءٌ نبويٌ كان أثيرًا إلى قلبه، قريبًا من لسانه وهو: “اللهمَّ لك الحمد، أنت نور السَّموات والأرض ومَن فيهنَّ، ولك الحمد، أنت قيُّوم السموات والأرض، ولك الحمد، أنت ربُّ السموات والأرض ومن فيهنَّ، أنت الحقُّ، ووعدك الحقُّ، والجَنَّة حقٌّ، والنار حقٌّ، والساعة حقٌّ، والنبيُّون حقٌّ، اللهمَّ لك أسلمتُ، وعليك توكلتُ، وبك آمنتُ، وإليك أنبتُ، وبك خاصمتُ، وإليك حاكمتُ، فاغفرْ لي ما قدَّمتُ وما أخَّرتُ، وما أسررتُ وما أعلنتُ، أنتَ إلهي لا إله إلَّا أنتَ”.هذه هي النسخة الأخيرة من طه حسين التي يتعمد كثيرون إخفاءها ولا يُصدر هؤلاء العجزة للناس إلا النسخة الأولى التي تاب صاحبها عنها!
الكاتب الكبير يوسف إدريس عُرف عنه في مرحلة من حياته بأنه أقرب إلى الإلحاد، واشتهر عنه إفراطه في الإساءة إلى علماء الإسلام، لا سيما الإمام الشعراوي، حيث وصفه بالراهب الروسي المثير للجدل “راسبوتين العرب”، إلا إن الرجل اختتم حياته بالتطهر من كل ذلك، بل زار البيت الحرام، وتعلق بأستار الكعبة، واعتذر للشعراوي، بل وأنزله منزلة أئمة المذاهب الفقهية المعتبرة عند أهل السُنة. ورغم ذلك فإن من يتحدثون عن “إدريس” في أي وقت، لا يذكرون له سوى مواقفه المثيرة للجدل، ويتجاهلون كالعادة خاتمته الحسنة وعودته إلى طريق الصواب؛ لأنها لا تروق لهم، ولا تناسب بضاعتهم البائرة!
وبمناسبة موسم الحج، فإن الشاعر بيرم التونسي أصابه في بواكير حياته مسٌّ من الإلحاد والتمرد وكثير من ألوان الشطط، وهي المرحلة التي يتم إبرازها والتركيز عليها دومًا، في الوقت الذي يتم غض الطرف فيه عن المحطة الأخيرة من حياته التي وضع فيها أيقونته الخالدة: “القلب يعشق كل جميل”، التي شدت بها أم كلثوم وتقول بعض كلماتها: أنا اللي أعطيتك من غير ما تتكلم/ وأنا اللي علمتك من غير ما تتعلم/ واللي هديته إليك لو تحسبه بإيديك/ تشوف جمايلي عليك من كل شيء أعظم/ دعاني لبيته لحد باب بيته/ واما تجلى لي بالدمع ناجيته/ مكة وفيها جبال النور/ طلة على البيت المعمور/ دخلنا باب السلام/ غمر قلوبنا السلام/ بعفو رب غفور..فاللهم أحسن خاتمتنا في الأمور كلها.

زر الذهاب إلى الأعلى