ليست الأحزان قاصرة على النِّساء دون الرِّجال .. فأحزان الرّجال أعظم درجة, وقلوبهم تحمل من الأشجان ما لا طاقة للنّساء بحمله.. غير أنّ الرّجالَ أقدر من النّساء على المداراة,والنّساء أمهر من الرجال في تمثيل مشاهد الأحزان.
من الواجب على القبيلة إعداد الطّعام لأهل المتوفــى طوال مدّة إقامتهم في الخيمة (مجلس القبيلة ), فهذا هو العرف الذي تربينا على احترامه, وخضعنا لقوة إلزامه, وتلك هي القاعدة التي لا تستثني بيتاً مهما كانت الظروف المعيشية لساكنيه.
السُنّة الحسنة التي سنّها أحد حكماء القرية ألقت عن كواهلنا ما لا طاقة لنا به .. حيث اجتمع الشيخ/ أبو المجد صالح .. برؤوس القبائل الأربع التـي يتشكّل منها مجتمع القرية . وأشار عليهم بتقليص مدة الإقامة بالخيــــــمة لتلقي واجب العزاء .. رحمة بالفقراء الذين يلزمهم العُرف بإعداد الطعام للرجال في خيـمتهم, وللنّساء المتجمهرات أمام بيـــت الفقيد.. كما شملت توصيات المؤتمر أيضا بعض النقاط الهامّة كالقضاء على ظاهرة التحيّة بالسجائر, وعدم قبول الخراطيش التي يقدّمها لهم البعض على سبيل المجاملة.
أمّا التوصيات التي تخصّ حريم العزاء.. فكانت تتمثل في النّهي عن المبيت خارج البيـــوت طوال فترة الحداد, والنّهي عن تلطيخ الوجه والشعر بالطين, والكفّ عن العديد الخارج عن حدود الأدب مع الله.
لاقت اقتراحات الشيخ قبولاً, وصادفت هوىً في نفوس المتضرّرين من الرجال, وشرع الناس في تطبيقها على أوّل حالة وفاة حدثت بالقرية, وتكفّل الشيخ/ عبدالعزيز دردير.. بنشر تلك الفكرة, وبالعمل على تعميم التجربة في القرى والنجوع القريبة والبعيدة.
أمّا حريم العزاء فلم يستطع الرّجال السيطرة على أفعالهن, ولا على أقوالهن, وظل النّسوة يمارسن طقوسهن رغماً عن أنوف الرجال. ولم تنجح تلك الثورة المباركة التي قادها زعماء القبائل للقضاء على استبداد الحريم, وتشبثهم بتلك العادات العجيبة المذمومة.
طعام حريم العزاء تتحمل مسؤوليته الجارات حتى وإن اختلفت القبائل, وطعام خيمة الرجال لا يجب إلا على قبيلة الفقيد, أو قبيلة العَصَبة إنْ كانت الفقيدة امرأة لا زوج لها ولا ولد, والمرأة المفجوعة لا تقرب الطعام في ليلة ( الوحدة ) مهما توسّلت إليها الحريم .. بينما الأقل حُرقة منها تقبل من صديقتها البيضة المسلوقة التي تدسّها في جيبها على حين غفلة من الحريم.
يدفع الرجال ضريبة باهظة في عام الحُزن .. فلا حقوق, ولا شرعية .. والعار كلّ العار أن تحمل المرأة جنيناً في رحمها خلال أيام الاحزان المتجدّدة.. ولها أنْ تواجه عاصفة من الغمز واللمز والكيد والمكر من الجارات إن هي فعلت تلك الفعلة..وكانها جاءت بما في بطنها من سفاح .
لا يجوز للحزينة أنْ تستحمّ, أو تتزين, أو تلبس غير السّواد, ولا تنام على السّرير طوال العام .. بل تلقي بجسدها المتعب كل ليلة على الأرض في سقيفة الدّار, وتتوسد عتبة الباب المفتوح على مصراعيه لاستقبال المزيد من الأحزان.
خلع الحَلق, وفكّ الضّفائر, وتلطيخ الوجه والشّعر بالطين, وارتداء جلباب الفقيد من الطقوس الرّاسخة التي تمارسها حريم العائلة بمجرّد إطلاق الخبر.
المناحة أيضاً كانت حاضرة بقوّة على موائد العزاء بما فيها من الكُفر والفسوق والعصيان.. فاللطم على الوجوه, وشق الجيوب, والتطبيل بالأواني النّحاسية, ورفع السّبّابة إلى أعلى اعتراضاً على حكم الله يمثل شكلا من أشكال تلك المناحة التي مازالت تمارسها العجائز في بعض النجوع.
الوفود التي تأتي للعزاء من النّساء لها أيضا قواعد لا يصح الخروج عليها.. فلابد من ثني الخُلّالة على الرأس, وخلع المركوب, وافتعال البكاء, وإطلاق الصرخات بأنفاسٍ طويلة عند اقترابهن من مجلس حريم العزاء: ( يابووووووووووووه ) .. وعلى صاحبات الواجب استقبال المُعزّيات بالصُراخ أيضاً.. ثم تبدأ تلك الوفود في لمس كل رؤوس صاحبات العزاء بالأكفّ.. ثم تبدأ وصلة العديد كآخر مرحلة من مراحل العزاء الحريمي.
ووضع اليد على رأس صاحبة العزاء من الطقوس الضّرورية التي تنسف فكرة العزاء في حالة عدم الحدوث.
– فلانه عسّت راسك لما جات العزا يابت؟
– له يا خالتي .. دي زي اللي ليها تار قديم.
– شوفي مضروبة الدّم!! قاعده مكرانه عليكي من يوم عزا جوزها ).
لا يحل للمرأة الحزينة أن تخبز أي مخبوزات سوى أرغفة الخُبز الشمسي طوال العام, ولا تُعير الأعياد اهتماما في المأكل ولا في الملبس.. بل تبالغ في رسم ملامح الحزن على وجهها الكالح في الأيام المفترجة عن عمد, ولا تسمح لبناتها باقتناء الملابس الجديدة, ولا بارتداء الملابس القديمة الملوّنة, ولا تسمح لنفسها ولا لأبنائها بمشاهدة التلفاز, ولا بسماع المذياع .
العدودة هي الأداة الفعّالة التي تُلهب حماس البواكي, ولكل فقيدٍ بكائيته الخاصّة به.. فعدّودة الغريق ليست كعدّودة المُحترق, وعدّودة الغريب ليست كعدّودة من مات بين عشيرته, وللكبير بكائية, وللصغير بكائية, والفتاة التي لم تتزوج ليست كالمرأة المتزوجة, وأبو العيال ليس كالعقيم.
فمثلاً: هذه البكائية لا تصلح إلا للغريب قولاً واحداً:
” نعش الغريب حطّوه في القيلة
واتعازموا الغُرَبَه على الشّيلة “.
وهذه البكائية لا تكون إلا للسّيد في قومه:
“والقبر قال انزل.. وانا اتلقّاك
ونستني .. وقطعت باللي وراك”.
وهذه البكائية لا تجوز إلا لرثاء ربّة البيت:
“أنا داخله والباب خد وشّي
وين الصّبية اللي تقول خُشّي”.
وهذه البكائية لاتصلح لرثاء أحدٍ سوى المئناث.. أو العقيم:
“ياريته كان ليه ولد وهبيل
يمسك جريد النعش لمّا يميل”.
تعرّض بعض الباحثين لتلك البكائيات الموروثة, وجمعوا شتاتها من أفواه العجائز, وطرحوها على موائد البحث والدّراسة والتشخيص, وحجزوا لها مقعداً في قطار الفنون القولية الشّفاهية, ومنهم من شرع في تأليف البكائيات بنفسه.. غير أنّ تلك التجارب الطارفة لم تُقنع الذائقة الشعبية لخلوّها من الصّدق الشّعوري, ومن حرارة اللوعة.
فالعدّودة إنْ خرجت من فم الثكلى تُجبر العيون على البكاء, وتجدد الأحزان في القلوب.. وتنكأ في النفوس الجراح .. فالنّائحة الثكلى ليست كالمستأجرة كما قال السَّلف, والبكاء على قدر الوجع, والصبر يعالج النفوس التي تتكيء على جُدران الجزع, وسبحان الحي الذي لا يموت.