مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: عبد الرحمن بدوي..الوجودي الهارب إلى الإسلام

0:00

الفيلسوف الدكتور عبدالرحمن بدوى، الذي عاش بين عامي: 1917-2002، هو أحد أبرز أساتذة الفلسفة العرب فى القرن الماضي، وأغزرهم إنتاجًا وأكثرهم إثارة للجدل. شملت أعماله أكثر من 150 كتابًا تنوعت بين: تحقيق وترجمة وتأليف. يعتبره بعض المهتمين بالفلسفة من العرب “أول فيلسوف وجودى مصري”؛ لشدة تأثره ببعض الوجوديين الأوروبيين، مثل: الفيلسوف الألمانى «مارتن هايدجر»، قبل أن يتم وصفه في مرحلة متأخرة من حياته بأنه “فيلسوف هارب إلى الإسلام”.
“بدوي”.. الذى كان تسلسله الخامس عشر ضمن واحد وعشرين شقيقًا وشقيقة، وُلد فى محافظة دمياط، ودرس الفلسفة فى كلية الآداب بجامعة القاهرة “فؤاد الأول»، ثم عُيّن معيدًا بها، وحصل على درجة الدكتوراه فى 1944، وكان عنوانها: “الزمن الوجودي”، وعلَّق عليها الدكتور طه حسين أثناء مناقشتها بقوله: «أشاهد فيلسوفًا مصريًا للمرة الأولى»، وناقش فيها “بدوى” مشكلة أثرت فى الفلسفة الوجودية والزمان الوجودي، وفي فترة قياسية غدا اسم الفيلسوف الشاب ملء الأسماع والأبصار.
عُيِّنَ “بدوى” بعد حصوله على الدكتوراة مدرسًا بقسم الفلسفة بكلية الآداب فى جامعة فؤاد فى إبريل 1945.. ثم صار أستاذًا مساعدًا فى نفس القسم والكلية فى يوليو 1949، قبل أن يترك جامعة القاهرة فى 19 سبتمبر 1950، ليقوم بإنشاء قسم الفلسفة فى كلية الآداب فى جامعة عين شمس “جامعة إبراهيم باشا سابقا”. وفى يناير 1959 أصبح “بدوي” أستاذ كرسي.. وعمل مستشارًا ثقافيًا ومدير البعثة التعليمية فى بيرن فى سويسرا من مارس 1956: نوفمبر 1958، ثم غادر إلى فرنسا 1962 بعد أن جرَّدت ثورة 23 يوليو 1952 عائلته الثرية جدًا من أملاكها، وتنقل بين عدد من الجامعات الغربية والعربية.
بدأ “بدوي” حياته مؤمنًا بالفكر الوجودي الذي يُمجّد الإنسان ويُعلي من قيمته، ويؤكد أنه صاحب تفكير وحرية وإرادة ولا يحتاج إلى مُوجّه ويعارض كل ما يحدُّ من حريته من الأفكار والغيبيات، والإيمان المطلق بالوجود الإنساني واعتباره أقدم شيء في الوجود، فيميل هذا الفكر إلى الإلحاد أحيانًا، وقدَّم العديد من المؤلفات والترجمات التي تروج لهذا الفكر الذي وضع جملة: “عش كأن لا إنسان عاش قبلك، وكأن لا أحد سيعيش بعدك” نُصبَ عينيه.
بالنظر إلى هذا التوجه الفكري لـ”بدوي”.. نجد أنه أثار الكثير من الدهشة في الأوساط الفكرية والفلسفية عندما قدم كتابيه: “دفاع عن محمد صلى الله عليه وسلم ضد منتقديه”، و”دفاع عن القرآن ضد الطاعنين فيه” والصادر بالفرنسية، حيث كان الكتابان بمثابة انقلاب في فكره، بما فيهما من دفاع عن الرسول والإسلام، غير أن الرجل يوضح ذلك قائلاً: “إنني أزحف منذ بداية حياتي الفكرية على جبهتين: جبهة الفلسفة العامة بما فيها الفلسفة الوجودية، وجبهة الفكر الإسلامي، ولا أراني ظلمتُ جبهة على حساب الأخرى”.
هنا تحديدًا يجب التأكيد على أن للفكر الوجودي شقين: أحدهما إلحادي، والثاني إيماني، وعبد الرحمن بدوي على الرغم من إيمانه بالوجودية، إلا أنه يُحسَبُ على الشق الإيماني فيه وليس الإلحادي، فقد استغرق في أوضاع الإسلام والمسلمين في العالم، واطلع على كتب المستشرقين الذين تناولوا قضايا الإسلام، وانتقد العديد منها والتي افترى مؤلفوها فيها على الإسلام، وقام بالرد عليها بنفس الأسلوب الذي اتبعوه في استخراج الأحداث التاريخية فكشف ضلالهم، كما سنرى لاحقًا.
كانت باريس المحطة الأخيرة لعبدالرحمن بدوي، حيث استقر فيها بشكل متصل على مدار ربع القرن الماضى، في غرفة بفندق “لوتسيا”، يخرج منها كل صباح سيرًا على الأقدام إلى دار الكتب الأهلية، فيجلس في المقعد المخصص له من السابعة صباحًا حتى السابعة مساءً؛ ليقرأ ويكتب وينتج كل عام كتابين: تأليفًا أو ترجمةً أو تحقيقًا.
في السنوات العشر الأخيرة من عمره.. انقطع عبدالرحمن بدوي للدفاع عن الإسلام في مواجهة الحملات المسعورة في الغرب ضده، فأنتج 15 كتابًا منها: “دفاع عن القرآن ضد منتقديه”، و”دفاع عن النبي محمد ضد المنتقصين لقدره”، ومنها ترجمته للسيرة النبوية إلى الفرنسية. أنتج “بدوي” نحو 200 كتاب حسب آخر إحصاء ذكره المفكر محمود أمين العالم، في قابل إحصائية أخرى تقول: إن كتبه تجاوزت 150 كتابًا بقليل منذ كتابه الأول عن “نيتشه” الذي صدر العام 1939..
إذا كان اسم الدكتور عبدالرحمن بدوي ارتبط لفترة طويلة في الثقافة العربية بالفلسفة الوجودية، فإنَّ كثيرين ممن لا يعلمون قدر الرجل، اتخذوا من هذا الارتباط توطئة للهجوم عليه ورميه بأقذع التهم؛ خصوصا أن للفلسفة الوجودية -كما ذكرنا آنفًا، وجهًا إلحاديًا، وأغلب الظن أن الذين هاجموه من هذه الوجهة لم يسيئوا إليه فحسب، وإنما أساءوا إلى فهم الوجودية أكبر إساءة وتجاهلوا الوجه المثالي لها.
الفترة الأخيرة من الإنتاج الفكرى والفلسفى للدكتور عبدالرحمن بدوى، خصصها كلها تقريبًا للدفاع عن الإسلام ضد الحملات المغرضة والمسعورة فى الغرب، وقد صدر أول كتاب فى هذه المرحلة العام 1989 بعنوان: “دفاع عن القرآن ضد منتقديه”، وفيه قال: “القرآن، وكونه الأساس الجوهرى للإسلام كان هدفًا رئيسيًا لهجوم كل من كتب ضده فى الشرق مثلما فى الغرب وذلك منذ النصف الثانى للقرن الأول الهجرى – السابع الميلادى وحتى الآن”، مردفًا: “من أجل ذلك.. تصدينا فى كتابنا هذا لفضح هذه الجرأة الجهولة عند هؤلاء المستشرقين حول القرآن، وأستطيع أن ألخص سبب التردى الذى وقع فيه هؤلاء المستشرقون بـ: جهلهم باللغة العربية، وضحالة ونقص معلوماتهم عن المصادر العربية، وسيطرة الحقد على الإسلام الذى ورثوه ورضعوه منذ طفولتهم على عقولهم وتسببه فى عمى بصيرتهم، ونقل المستشرقين للأكاذيب حول القرآن والإسلام. بعضهم عن بعض وتأكيدهم لها، مختتمًا مقدمة كتابه بقوله: «هدفنا كشف القناع عن العلماء الكاذبين الذين قدموا الضلال والتزوير لشعب أوربا ولغيره من الشعوب، وبإبراز الحقيقة الواضحة يحرز القرآن النصر على منتقديه».
يقول الدكتور عطية القوصى، فى مقدمة كتاب: “دفاع عن النبى محمد ضد المنتقصين لقدره”: “يعبر بدوى عن مدى خيبة الأمل التى اكتشفها فى بعض المستشرقين ومدى الصدمة التى صدمها حيال من كان يكن لهم الاحترام الكبير فيما سبق أن كتبوه، فقد اكتشف سذاجة معلوماتهم عن الإسلام وجهلهم المطبق عن نبى الإسلام وعن التاريخ الإسلامى عمومًا، وتعصبهم المقيت وتحاملهم الشديد”، فيما نوَّهَ الدكتور بدوى فى مقدمته إلى بعد أن درس هذا الكم الهائل من الكتابات الزائفة التى كتبها المستشرقون عن الإسلام ونبيه وبعد أن اكتشف هذا الزيف والتضليل المتعمد والمتحامل وضع هذا الكتاب عن نبى الإسلام.
المفكر الكبير الراحل الدكتور سعيد اللاوندى، كان قريبًا من “بدوي”، حيث احتفى به وبمؤلفاته فكتب يومًا: “هناك تناقض بيّن يلحظه الدارسون لفكر عبدالرحمن بدوى، وهو أنه بدأ حياته وجوديًا يروّج للفكر الوجودى فى الشرق عبر مؤلفاته وترجماته الكثيرة، ثم انتهى فى أخريات أيامه مدافعًا عن الإسلام ونبيه الكريم عبر كتابين نالا شهرة ذائعة وتُرجما لعدة لغات الكتاب الأول: دفاع عن محمد «صلى الله عليه وسلم» ضد منتقديه، والثانى: دفاعه عن القرآن ضد الطاعنين فيه، مستطردًا: “بدوى نفسه كان سعيدًا بتأليفه الكتابين، فأذكر أنه قادنى من يدى ذات مرة فى باريس لنذهب إلى مكتبة تطلّ على نهر السين؛ لكى أرى بنفسى الكتابين”.
واصل عبدالرحمن بدوى نضالاته على الجانبين حتى وصل إلى كتاباته الدفاعية عن محمد صلى الله عليه وسلم والإسلام، وكتاباته الأخرى التى حاكم فيها عشرة من المستشرقين الذين تناولوا قضايا الإسلام وثقافته وحضارته، وقد ساعد بدوى على القيام بهذه المهمة الصعبة إتقانه التام عددًا من اللغات أهمها: اللاتينية واليونانيةن فضلاً عن: الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية..بحسب “اللاوندي” الذي استطرد: ” وصل بدوى إلى حد الاستغراق بأوضاع الإسلام والمسلمين فى العالم، وأذكر أنه حين طالع مقالة لسلمان رشدى بجريدة لوموند الفرنسية، انفجر سبًّا فى “هذا الفاجر”- هكذا وصفه – الذى جنده الغرب للطعن فى الإسلام حتى يقال: وشهد شاهد من أهل الإسلام”.
أيقن عبد الرحمن بدوي أن أن الغرب وضع الإسلام مكان الشيوعية التى انهارت، وجعله العدو الأول، وهو ما ينعكس في كثير من كتاباتهم التي العدائية والكارهة للإسلام التي تحولت بمرور الوقت إلى مراجع ومراتع آسنة يقتات منها وعليها خصوم الداخل والخارج وكارهو الدين بالسليقة.
في سنوات عمره الأخيرة.. تولدت لدى الدكتور عبد الرحمن بدوى عُقدة ضد كل من يتحدث عن الإسلام في الغرب، بحسب اللاوندى الذي سأله عن سبب ذلك، فأجابه: “لأن الغرب فيما يتعلق بالإسلام يكيل ليس بمكيالين فقط، ولكن بعشرة أو ربما بمائة مكيال، فهو أكثر عنصرية ووحشية مع الإسلام، مما يمكن أن يُتصور”..
أمّا الموقف الكاشف الذي سرده “اللاوندي” في هذا السياق فهو أن “بدوي” اصطحبه يومًا إلى الطابق العلوي في إحدى المكتبات بالحيّ اللاتيني في باريس، وبعد أن بحث قليلاً بين رفوف الكتب انتزع كتابًا ووضعه أمام عينيه، وهو يقول في غضب: “انظر، هذه هي عينات الكتب التي يحرص الغربيون على إبرازها وترجمتها”، وعندما دقق “اللاوندي” النظر في الكتاب، فإذا هو عبارة عن مجموعة من المقالات لنفر من الكُتّاب العلمانيين المصريين، أمثال: سعيد عشماوي وفؤاد زكريا، جمعها وترجمها من العربية إلى الفرنسية المستشرق الفرنسي المعروف جيل كييل.
يبدو استلهام سيرة الدكتور عبد الرحمن بدوي مهمًا وضرويًا في هذا الوقت تحديدًا؛ بما تحتويه من تفاصيل وأسرار وحجج وحكم قادرة على الرد على كثير من الأكاذيب والأباطيل التي تطال الإسلام بوتيرة تبدو متسارعة وممنهجة في آن واحد.

زر الذهاب إلى الأعلى
اكتب رسالتك هنا
1
تواصل معنا
اهلا بك في بوابة " مصر الآن"