مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: العـَـــــــــــــــــــــدرا مريم

0:00

حظيَ كتابُ “المسيح عيسى بن مريم”، الذى كتبه المفكر الإسلامي البارز عبد الحميد جودة السحَّار، في خواتيم أربعينيات القرن الماضي، باهتمام المسلمين والمسيحيين على السواء. “السحَّار”، الذي عاش بين عامي 1913- 1974، ليس الكاتبَ المسلمَ الوحيدَ الذي كتب عن المسيح وأمه مريم عليهما السلام، فقد فعلها الأديب الفذُّ عباس العقاد 1889-1964، كما فعلها من قبلُ الكاتبُ المسيحيُّ الكبيرُ الدكتور نظمي لوقا 1920-1987عندما وضع كتابًا مُهمًا بعنوان: “محمد..الرسالة والرسول”.
هكذا كانت مصر واحة للمحبة والإخاء والتسامح. تميَّزَ كتاب “السحَّار” عن المسيح وأمه- عليهما السلام- بأنه أكثرُ بساطةً وأوضحُ رؤيةً وأدقُّ فى مصادره مُقارنةً بغيره من الكتب المشابهة، كما إنه كان أكثرَ اهتمامًا بدور وتأثير السيدة مريم فى حياة ابنها، حيث أفرد لها مساحة كبيرة في كتابه، مُعتمدًا على الرواية القرآنية وروايات الأناجيل المُعتمدة.
يحكى “السحَّار” سيرة “العدرا” منذ ميلادها فى “الناصرة” طفلة بهية نقية تقية، مات أبوها “عمران” فحملتها أمُّها “حنة” إلى “أورشليم”؛ لتفى بنذر نذرته، ومريم فى بطنها، بأنْ تهبَها لخدمة بيت الله ومَعبده.
فى مدينة “أورشليم”.. كفلَ النبيُّ “زكريا” الطفلة الصغيرة، كما ورد في القرآن الكريم: “وكفلها زكريا، كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا، قال: يا مريمُ..أنَّى لكِ هذا؟ قالت: هو من عند الله”. تعلقَ قلبُ الفتاة بالصلاة والعبادة، ولما بلغتْ سن الصبا وبان جمالُها بدأ الخُطابُ يطرقون بابها ويخطبون ودَّها، ووافقتْ أمُّها على تزويجها من قريبٍ لهم يعملُ بالنجارة اسمه: “يوسف النجار”. وافق “النجار” على طلب “مريم” بأن تعود إلى معبدها فى “أورشليم”؛ حتى ينتهى من تجهيز بيت الزوجية.
وفى “أورشليم”.. كان الحادثُ الذى غيّر مسار حياتها ومسار البشرية كلها. يحكى “السحَّار” بأسلوبه السلس العذب في سِفره المدهش: “وذاتَ ليلةٍ بينما كانتْ مريمُ غارقة فى ابتهالاتها، أحسَّتْ كأنَّ شخصًا فى محرابها، فتلفتتْ فلم تجد أحدًا، فمشى الخوفُ فى أوصالها وأرهفتْ حواسُّها واتسعتْ عيناها السوداوان رعبًا، ومسَّ أذنيها حفيفُ صوتٍ، فغمغمتْ فى فزع: مَن هناك؟.. وإذا بصوتٍ عذبٍ يقولُ: أنا رسولُ ربك إليك، وغرق المكانُ فى ضوءٍ باهرٍ، فخفق قلبُها فى شدة، وانبهرت أنفاسُها وتفصَّدَ العَرقُ منها، وانبعث صوتٌ عذبٌ من شغاف قلبها: “يا مريمُ إنَّ اللهَ اصطفاكِ وطهَّركِ واصطفاكِ على نساء العالمين، يا مريمُ اقنتى لربك واسجدى واركعى مع الراكعين”.
يستطرد “السحَّار”: “ساد المحراب فى سكون رهيب، وبقيتْ مريمُ فى ذهول، حتى إذا ذهب روعُها أحسَّتْ أمنًا يغشاها، وطمأنينة تنسكب فى روحها، فمُلئتْ نشوة، وسالت دموع الفرح على خدِّيها وخرَّت ساجدةً؛ شكرًا لله”، وبعدها جاءها الملاكُ فى صورة شاب وسيم؛ لينفخ فيها من روح الله؛ ليهبها غلامًا زكيَّا، فتحمل مريم فى المسيح.
المدهش -كما يروي “السحَّار”- هو أنَّ يوسف النجار -الذي كان من المفترض أن يكون أشد الغاضبين على مريم والناقمين عليها والمنتقمين منها- صار حارسَها وحاميَها فى تلك المحنة.
كان يوسف –كما يحكي السحار- مؤمنًا تقيًا يعتقد أنَّ اللهَ سيرسلُ المسيح إلى بنى إسرائيل نبيًا من صُلب داود وستضعه عذراء. ومريم عليها السلام من تلك السلالة الطاهرة، وهى كُفءٌ لحمله، فلم يُمارِ فى ذلك ولم يكذبها، ودخل لينامَ فإذا بملك يقول له: يا يوسفُ.. إنَّ ما فى بطن مريم من عند الله، وقد اختارك اللهُ لتكفل رسولَه؛ ولتكونَ راعيًا له، فهبَّ يوسفُ من نومه منشرحًا، وسجد لله شكرًا أن اختاره حارسًا لمسيحه”.

زر الذهاب إلى الأعلى