مقالات الرأى

راندا الهادي تكتب : وصية جدتي

0:00

كانت جدتي – ذات الوجه الندي والنفس التواقة للتميز -تُعلِمنا دروسًا لا تُنسى في سنوات عمرنا الأخضر ، دروسٌ استقرت كالرواسي رغم بساطة المواقف واعتيادها في حياتنا اليومية .
فلا أنسى -عندما كنا نجلس صغارًا متحلقين حول طبلية الطعام صبيانا وفتيات -حرصها على توزيع (منابات) اللحمة على الجميع بالتساوي لا فرق بين صبي وفتاة ، وعندما كنا نقفذ حولها في يوم الخبيز للحصول على رغيف السكر بالسمن البلدي ( الأبوري) -كما كنا نسميه- كانت تطلب مننا مهامًا بسيطة لأدائها ، ليصبح ما نناله مكافأةً لجهدنا ، مزيلةً كلامها بأن ما يأتي سهلًا يذهب سهلًا.

أما الدرس الذي تعلمته منها وظل يدق في رأسي طويلا حدث عندما كنت آخذ منها بريزة لأشتري حلوى من البقال ، صاحب الفترينة اليتيمة في نهاية الشارع المجاور لبيتها ، وقتها عُدت وأنا أحملُ حلوى غير التي اتفقنا على شرائها ، وفورا سألتني أين ما اتفقنا عليه،فأخبرتها بأن البقالل قال لي : أن هذا النوع أفضل مما أطلبه وأطيب ، فسألتني بحزم : من يشتري ؟! أنت أم هو ؟! من سيأكلها أنت أم هو ؟!وأمرتني بإعادتها وشراء ما كنتُ أنوي شراءه.

موقفٌ بسيط قد نكون قد عَبَرنا به كثيرا في طفولتنا المبكرة سواء مع أجدادنا أو والدينا ، ولكن إذا ما دققنا سنجد بين طياته المنقذَ لنا وللأجيال القادمة في هذا العصر ، عصر السوشيال ميديا والتبعية العمياء وانعدام الهوية .

نحن نستيقظ من نومنا كلَ صباح لنبني مواقفنا ونحددَ مسارنا وفقا لما تخرج به علينا السوشيال ميديا يوميًا ، ساعاتٌ نقضيها غير مبالين بما نشاهد ونتعرض له وهل يناسب شخصياتنا وديننا وأعرافنا أم لا؟ ، غير مبالين بما نريد ، مرددين كالببغاء ما قرأناه من أراء ووجهات نظر عبر الجوال ، وكأن أدمغتنا المعطلة تحولت إلى مكب نفايات لمحتوى السوشيال ميديا ومواقع التواصل الإلكترونية ، مفتقدين حتى عملية الفرز التي تقوم بها مكباتُ الزبالة .

ما أريده هو ما أرادته جدتي وما أوصتني به ، لا أحد يمتلكُ دماغك ليصُبَ فيه ما يريد ، كما أن لسانك مرآةُ عقلك أنتِ لا غيرك ، رأيك لا يجب أن يكون نتيجةَ فيديو أو معلومات سطحية -في الغالب تكون ناقصة – من السوشيال ميديا ومواقعها ، كن أنت ، اجتهد في تحديد وترتيب أولوياتك بنفسك لا بواسطة الآخرين ، ببساطة لا تكن إمعة كما أمرنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وأخيرًا اشتري بالبريزة ما تريده لا ما يريده البقال .

زر الذهاب إلى الأعلى