Uncategorizedمقالات الرأى

راندا الهادي تكتب: أنا والقادمة من طنطا

0:00

كثيرًا ما تجعلنا مواقفُ وشخصياتٌ نمُرُّ بها في الحياة نُعيد حِساباتِنا ونظرتَنا في ما هو قادم من العمر؛ فتلك سُنة الحياة، نظل نتعلم طوال رحلتنا فيها، نؤثر ونتأثر، وكما تقول الأمثال الشعبية: (اللي مايعلموش أبوه وأمه تعلمه الأيام والليالي).

واستمرارًا للدروس في حياتنا، أشارككم هذا الدرسَ الذي تعلمتُه يومًا ما، عند عودتي من عملي صباحًا إلى المنزل، حيث قابلتُ إحدى الأمهات عند ماكينات الخروج من مترو الأنفاق، وبدتْ مُنهكةً، وكان الوقتُ مُبكرًا، وعدد مُرتادي المحطة قليلون، ولاحظتُ عدمَ معرفتِها بطبيعةِ التعامل مع بوابة الخروج من المترو، فساعدتُها، وبكل عفوية قالت لي: (ماعلش يا بنتي، من طنطا وماعرفش الحاجات دي)، فكان ردي: (القاهرة نورت بقدومك)، ولوهلةٍ كنتُ سأتركها وأُكمِل طريقي، لكن لفتَ انتباهي الحقائبُ الثقيلة التي تُنهِك ساعِدَيْهَا، ومُعاناتُها الشديدة في حَمْلِها، عرضتُ المساعدة ورحَّبتْ هي على الفور، وتصادف أنها ذاهبةٌ لزيارةٍ بالقرب من منزلي.

تجاذبنا أطرافَ الحديث واشتكتْ لي أنها مريضة ضغط وسكر ولم تتناول إفطارها، وأنها كبيرةٌ على هذا (التنطيط)، ولولا صلةُ الرحم ما تحركتْ من مدينتها طنطا، فسألتُها: هل تزورين أبناءك؟ فأخبرتني بأنها وحيدة لا أبناءَ لها، بل تزور ابنةَ أختِها.

عبَرنا الطريقَ معًا وتذمرتْ من قلة ذوق البعض لعدم صبرهم على مَن يَعبُرون خاصةً من كبار السن، وعندما سألتُها: لماذا لا يأتي أقرباؤكِ لزيارتكِ فهم الأصغرُ سِنًّا والأخفُّ حركةً، ردَّتْ بعفوية: (ياريت لكن عشم إبليس في الجنة) !!

أوصلتُها لوجهتِها وعرفتُ منها أنها تعيش بمفردها لكنها راضية؛ فهي لا تتحمل شعور أنْ تُمثِّلَ ثِقَلًا على أحد. وعند بوابة العمارة رأيتُ رجلًا أربعينيًّا كأنه زوجُ ابنة أختها، لم يتفوه بكلمة وهي تُودعني بالدعوات وتمتمات بالستر والعافية.

إلى هنا انتهت القصة ولكن لم ينتهِ سيلُ التساؤلات الذي تلاطمتْ موجاتُه داخل عقلي: لماذا تُترك مثل هذه المرأة بحالتها الصحية تعيش بمفردها وهي الودود للرحم في هذا العمر؟! لماذا تقطع كل هذه المسافة الشاقة ولا ينتظرها أحد في محطة الوصول على الأقل؟! لماذا لم يبادر هذا الأربعيني بحمل حقائبها وشكر من قامت بمساعدتها للوصول وكأنه غير ذي شأن بما يحدث؟! هل هانت علينا صلة الرحم لتلك الدرجة؟! هل قست القلوب ونُزعت منها الرحمة نزعًا؟! أين احترام الكبير؟! هل ذهب الترحاب بالمسافر وحسن استقبال الضيوف أدراج الرياح؟! لأين ذهبت الأصول والأخلاق؟! وهنا احتل الصمتُ تفكيري، وتذكرتُ العبارةَ القائلة: لقد ساد سوءُ الأخلاق بين الناس حتى أصبحت الأصول والتربية الحسنة أمرًا ملفتًا هذه الأيام!!

زر الذهاب إلى الأعلى