مقالات الرأى

حازم البهواشي يكتب: الوصية

0:00

الوصيةُ _ في غير الأملاك _ خلاصةُ تجربة، يقولها المُوصِي أو يَكتُبها ليرفعَ العناءَ والشقاءَ عمّن يهمه أمرهم، ذلك أنه يرسم لهم خريطةَ طريق لا يَضلوا إن اتبعوها، يفعلُها الأبُ مع أبنائه، والكاتبُ مع قُرائه، والأستاذُ مع تلاميذه. أما إن كانت الوصيةُ من نبيّ، فإنها تكون نِبراسًا للعالمين يُضيء لهم الطريقَ حتى لا يسقطوا في عتمة الدنيا وظلمتها.

القارئ لخُطبة الوداع التي خطَبها النبي _ صلى الله عليه وسلم _ في الحَجَّةِ الوحيدةِ له _ عليه السلام _ في السنة العاشرة للهجرة، والتي تُوفي بعدها بنحو ثلاثة أشهر، يرى النبيَّ يُركز فيها على أصول الإسلام وقواعدِ الدين، وكأنه يُوصي الألوفَ الذين تجمعوا مِن حوله، ليُبْلِغَ الحاضرُ منهم الغائب، وتظلَّ هذه الوصايا تنتقلُ من جيل إلى جيل، مَن يعمل بها تُلازمهُ الطمأنينة ويتحلى بالسلام وسط المتاعب والمِحَن.

ومن بين وصايا النبي: (أيها الناس: إن دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم حرامٌ عليكم إلى أن تلقَوا ربَّكم كحُرمةِ يومِكم هذا في شهرِكم هذا في بلدِكم هذا، ألا هل بلغت اللهم فاشهد، فمن كانت عنده أمانة فليؤدِّهَا إلى من ائتمنَه عليها). يوصي النبي _ عليه السلام _ بحُرمة الدماء والأموال والأعراض، وهل يُفسِد بين الناس كهذه الثلاثة؟! وإن العباداتِ الشعائريةَ كالصلاة والصيام لا تكون لها قيمة إذا سُفِكت الدماء واغتُصِبت الأموال وانتُهِكت الأعراض!! ومن يفعل ذلك فقد تخلَّفَ عن ركب الإنسانية.

يُوهِمُ الواحدُ منا نفسَه بأن اللهَ راضٍ عنه لأنه يُصلي، ويَصوم، وقد اعتمَرَ وحَجَّ! ومع تسليمنا بأهمية العباداتِ الشعائرية غيرَ أنها ليست كافيةً لرضا الله؛ فاللهُ لا يرضى إلا إذا كان المرءُ مُستقيمًا أيضًا في العَلاقات المادية والاجتماعية، فالصلاة طريقٌ إلى الله إذا لم تصلْ مِن خلالها إليه سبحانه، أصبحتْ لا قيمةَ لها!! ومن معاني العِرْضِ في اللغة: ما يُمْدَحُ ويُذَمُّ من الإنسانِ سواء كان في نفسه، أَو سَلَفِه، أو مَن يلزَمُه أَمرُه، وهذا يعني أن النبي _ صلى الله عليه وسلم _ في خُطبة الوداع يُحذر من إطلاق اللسان في الحديث عن الآخرين، فلا تَطعَنْ ولا تَحْكُمْ ولا تَستخِف بأحد، ثم يُؤَذِّن المؤذن، فتقول للحضور: قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله!!

الدِّينُ منهجٌ كامِل، مَن فَهِمَهُ خمسَ عباداتٍ شعائريةٍ فقط _ على أهميتها _ اختزلَ بنودَه؛ فهو حياةٌ كاملةٌ في البيت وفي الشارع وفي العمل وفي كافة العلاقات بين الناس، في عينك وأنفك وأذُنك، ولسانك ويدك ورِجلِك. حين فَصَلْنَا الدِّينَ عن الحياة جَعَلْنَا الدِّينَ بلا قيمة، وما وصايا النبي إلا ربطٌ بين الدِّينِ والحياة!! لكنَّ عدوَّنا أرادَ أن نَدَعَ (ما لله لله، وما لقيصر لقيصر)، وقد ساعدناه!! الدِّينُ في المسجد، أما في الدنيا في الحياة فافعل ما تشاء!!

تأمَّلْ ما يقولُه الشيخ “محمد الغزالي” _ رحمه الله _ ( 1917م _ 1996م ) في كتاب (فقه السيرة): “في مسجدِ النبي _ صلى الله عليه وسلم _ بالمدينة، رأيتُ حشدًا من الناس يتلمسُ جوارَ الروضةِ الشريفة، ويَوَدُّ أنْ يَقْضِيَ العُمْرَ بجانِبِها، ولو خرجَ النبيُّ حيًّا على هؤلاء لأنكرَ مَرآهم وكرِهَ جوارَهم، إن رثاثةَ هيئتِهم وقلةَ فقهِهِم، وفراغَ أيدِيهم، وضياعَ أوقاتِهم، وطُولَ غفلتِهم، تجعلُ علاقتَهم بنبيِّ الإسلام أوهَى مِن خيطِ العنكبوت!!…….. فأنَّى للأرواحِ المريضة والعُقُولِ الكليلة أن تتصلَ بمن جاءَ لِيُودِعَ في الأرواحِ والعقول عافيةَ الدِّينِ والدنيا؟!”.

زر الذهاب إلى الأعلى