مقالات الرأى

حازم البهواشي يكتب: المهاجر العظيم

0:00

إذا عشتَ في بلدٍ ثلاثةً وخمسين عامًا، فهل يسهل عليك أن تهاجرَ منها؟! يصعب الأمرُ على النفس بالطبع، بل يكاد يستحيل إلا لرجلٍ لديه غايةٌ نبيلة وهدفٌ واضحُ المعالم، يرى تعبَه بل نفسَه ثمنًا قليلًا في سبيل تحقيق هذا الهدف، وليس الهدفُ شخصيًّا، بل عالميًّا، ولا أبالغ إن قلتُ إنه هدف كونيّ؛ فالكون كله يحب سيدَنا رسولَ الله؛ انسجامًا مع طبيعةِ وفِطرةِ كلِّ مخلوق ” وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ۗ ” ( الإسراء _ 44 ).

ظُلْمُ أهلِ مكةَ وليس كفرُهم هو ما أدَّى بالمهاجر العظيم محمدٍ _ صلى الله عليه وسلم _ إلى أن يُهاجرَ _ بعد أمرِ الله _! وليس أدلَّ على ذلك من أنه _ قبلُ _ عليه السلام _ أمرَ أصحابَه بالخروج إلى الحبشة، فقال لهم: (فإنّ بها مَلِكًا لا يُظلَمُ عنده أحد)!! لم يلتفت إلى دِين الملك بل التفتَ إلى البيئة التي يَصلح فيها التعايش وإن اختلفت العقيدة، فالإسلامُ دينُ الحرية، يكره العبوديةَ للفرد، ويكرهُ القيودَ والجمود، إذ لا دينَ حيث لا حرية، كما يقول الشيخ “محمد الغزالي” (1917م _ 1996م).

خرج النبي _ صلى الله عليه وسلم _ من بلدٍ تتآمر على قتله إلى بلدٍ يمنعه أهلُها مما يمنعون منه نساءَهم وأبناءَهم، ويتنافس رجالُها على نصرته، ويفدونه ودعوتَه بأرواحهم، وباطمئنان عقيدتِه يطمئن هو.

والإيمان لا يُورِثُ صاحبَه الراحةَ في الدنيا، بل لا بد من عملٍ وتعبٍ في الحياة وإلا ففهمُك خاطئ، وقد كان للتعب لذةٌ في قلوب أصحاب رسول الله لأنهم قدَّرُوا نعمةَ الإسلام ونعمةَ مَن هداهم للإسلام.

ولعلَّ ما فعله _ صلى الله عليه وسلم _ من إخاءٍ بين المهاجرين والأنصار هو مِن دلائل نبوته؛ فإنك ترى المهاجرَ والأنصاريَّ اللذين آخى بينهما، يتشابهان في الصفات، ومثالُ “سعد بن الربيع الأنصاري” و “عبد الرحمن بن عوف” مثالٌ شهيرٌ لدينا جميعًا، فـ “سعد” عرَضَ _ بِطِيب نفس _ نصفَ ما يملك على “عبد الرحمن”، فشكَرَه الأخير، ودعا له بالبركة، وطلب منه أن يدله على السوق؛ ذلك أن الكريمَ يُقابله عفيف وليس انتهازيًّا!! وإن عكسنا الأمرَ بين الطرفين لكان التصرفُ نفسُه هو ما سيحدث، كان “سعد” سيشكر عطيةَ “عبد الرحمن” ويسعى لصُنع نفسِه بنفسه!!

كيف استطاعَ المهاجر العظيم أن يمحوَ كلمةَ (أنا) من نفوس أصحابه؟! كيف استطاع أن يجعلَ جميعَ أصحابه يُقدمون المصلحةَ العامة على المصلحة الشخصية فلا تُحركهم إلا رُوحُ الجماعة ومصلحتُها وآمالُها؟! أليس هذا من دلائل نبوته؟! ” لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ” ( الأنفال _ 63 ).

ثم إن معاهدةَ اليهود تؤكد بُعْدَ الإسلام عن التعصب، وقَبُولَه جِوَارَ الآخر: (لليهودِ دينُهم وللمسلمين دينُهم، وأن بينهم النصحَ والنصيحةَ والبِرَّ دون الإثم، وأن بينهم النصرَ على من دهم يثرب).

ليكون المجتمعُ مُطْمَئِنًّا لا بد أن تضمنَ حُسْنَ صلتِه بالله، وحُسنَ صلة الناس _ كل الناس _ ببعضهم البعض، فبنى المهاجرُ العظيمُ النفوسَ ليكونَ أصحابُه من الكبار لا من الصغار والأقزام!!

قالوا في وصف سيرة رسول الله: ( كان دائمَ البِشر، سهلَ الخُلُق، ليِّنَ الجانب، ليس بفظٍّ ولا غليظ، ولا صخَّابٍ ولا فحَّاش، ولا عتَّابٍ ولا مدَّاح، قد ترك نفسَه من ثلاث: الرياء / والإكثار / وما لا يَعنيه، وتركَ الناسَ من ثلاث: لا يذم أحدًا / ولا يُعيره، ولا يطلبُ عَورتَه / ولا يتكلمُ إلا فيما يرجو ثوابَه…. ).

هكذا علَّمَ أصحابَه وكانت سيرتُه مُصدِّقةً لحديـثِه، فطاب لأصحابه أن يُضحُّوا بكل عزيزٍ وغالٍ في سبيل نُصرة مبادئ دعوته لا يرجون جزاءً إلا من الله.
إنه أهلٌ لأن يُحَب فالصلاةُ والسلامُ على المحبوب الذي قال: (المرءُ مَعَ مَن أحَبّ).

زر الذهاب إلى الأعلى