مختار محمود يكتب: جدلية الوجود التاريخي للأنبياء
هل ينفي التاريخ وجود الأنبياء، وهل لا توجد شواهد تاريخية تُثبت حقيقتهم؟ هذا السؤال تفرضُه بعض الأخبار المتواترة المنسوبة لأثريين ومؤرخين يؤكدون أنَّ التاريخ يقف عاجزًا أمام إثبات وجود الأنبياء!
مؤخرًا..نسبت تقاريرُ صحفية إلى وزير الآثار السابق والأثري العالمي الدكتور زاهي حواس –ولم تكن المرة الأولى- تأكيده على أنه لا شواهد تاريخية على وجود الأنبياء. الأمانة تقتضي أن نقول: إن كلام “حواس” ليس جديدًا؛ حيث سبقته محاولاتٌ مشابهة ومُستميتة، ولأصحابها نواياهم المعروفة.
في مقابل هذا الإصرار المريب، الذي يطعن بشكل مباشر في عقائد ثابتة وقناعات راسخة، ظهرت محاولات علمية رصينة تسعى إلى دحضه، وتعمل على نفيه، وتثبت تهافته، وتفضح نوايا أصحابه.
من بين هذه المحاولات كتاب: “الوجود التاريخي للأنبياء وجدل البحث الأركيولوجي..شبهات وردود” لمؤلفه الدكتور سامي عامري، الصادر عن دار “رواسخ”، وهو من القطع الكبير، وتزيد صفحاته على 550 صفحة.
يقول الكاتب في المقدمة: “التشكيك في الوجود التاريخي للأنبياء شُبهة وافدة”، مُرجعًا إياها إلى “صعود التيارات العقلانية المتطرفة في أوروبا التي استهواها التشكيك في كل شيء ديني، خاصة المعجزات”.
يؤرخ “عامري” لهذه الشبهة مؤكدًا: “وكانت الانطلاقة الكبري لإثارة الشك في تاريخية الأنبياء في العقد السابع من القرن الماضي؛ إثر انحسار أطروحة مدرسة الأركيولوجي الأمريكي “وليام فوكسويل أولبرايت”؛ فقد استطاع وتلاميذُه الهيمنة على الجو العلمي في الأربعينيات إلى الستينيات من القرن العشرين بالانتصار لتاريخية إبراهيم عليه السلام وبنيه، من خلال الكشف عن تشابُهات كثيرة بين تفاصيل قصصهم وما اُكتشف من آثار في البلاد المجاورة لفلسطين..”
بعد رحيل “أولبرايت” وتلاميذه تباعًا في العقد السابع من القرن الماضي..صدر كتابان مثيران لباحثين أمريكيين، هما: “تاريخية روايات الآباء: البحث عن إبراهيم التاريخي” لـ”توماس تومسون”، و”إبراهيم في التاريخ والتراث” لـ”جوفان سيترز”، وكلاهما يدعم الفكرة السابقة بشكل أو بآخر.
ثم يُسلط المؤلفُ الضوءَ على نقطة جوهرية وهي: “وفي العالم العربي..لم يتولَّ نشرَ دعاوى الطعن في النبيين أركيولوجيون من العالم الأكاديمي، ولا رجالٌ مسَّتْ أيديهم تربة الحفريات، وإنما كان الرواد مُجرد نقلة عن كُتب المستشرقين أو غُلاة الأركيولوجيين”، ضاربًا المثل بالدكتور طه حسين صاحب العبارة الشهيرة التي أثارت واحدة من أبرز الزوابع الفكرية في النصف الأول من القرن العشرين: “للتوراة أن تُحدثنا عن إبراهيمَ وإسماعيلَ، وللقرآن أن يُحدثنا عنهما أيضًا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي”!
تجدد التشكيك في قصص الأنبياء في آواخر القرن الماضي بالترويج لكتابات اللادينيين والملاحدة العرب ومحاضراتهم في الدوائر الغربية. وإذا كان النقاد الغربيون يُسقطون تاريخية الأنبياء أو بعضهم؛ انطلاقًا مما يعتبرونه أخطاءً في كتب سابقة للقرآن الكريم، فإنَّ اللادينيين العرب يتسترون بالتوراة لإدانة القرآن الكريم وإنكار ربانيته، ويتجاوزون ما يعتبرونه أدلةً وبراهينَ إلى الهجوم اللفظي العنيف والعُدواني ضد معارضيهم!
ومن أبرز مَن انضموا إلى مشروع التشكيك في تاريخية الأنبياء مؤخرًا: الكاتب العراقي “خزعل الماجدي” الذي أشاع التشكيك في النبوة وأعيان الأنبياء القرآنيين وقصصهم ومُعجزاتهم، مُستخدمًا في ذلك لغةً ساخرةً وخطابًا هازئًا مستهزئًا!
كما ظهر فريقٌ آخرُ يطعنُ في القصص القرآني والتوراتي بالترويج للنظريات الشاطحة التي يأنس بها اللاهون المحبون للغرائب والأطروحات الشاذة المخاصمة لأي منهج علمي رصين.
يصف الكتاب محاولات الطعن في تاريخية الأنبياء بقوله: “إنها هجمة شرسة على القرآن الكريم؛ للتشكيك في ربانيته، لا يوقفها شيءٌ؛ لأنها لا تتقيدُ بالمنهج العلمي في البحث، وإنما تركن إلى لغة الإثارة والتدليس، وطريق النقل غير النقدي عن المتطرفين من الباحثين الغربيين، وقد استفحل الأمر حتى وجدنا من يُطلق دعوى إنكار وجود محمد صلى الله عليه وسلم”!!
يناقش الكتاب -بجهد واضح ومُقدر ودون خجل أو تردد- تلك الإشكالية المثيرة للجدل وهي: “دعوى خُرافة الأنبياء، ويرد بالأدلة والأسانيد التاريخية على مَن يُنكرون النبوة وينفون وجود الأنبياء، وتحديدًا الخمسة والعشرين نبيًا الذين ورد ذكرُهم في القرآن الكريم، بدءًا من آدم عليه السلام، وانتهاءً بنبي الإسلام محمد عليه الصلاة والسلام.
يؤكد “عامري” أن دراسته تتناولُ الوجودَ التاريخي للأنبياء، وتقتصر على ما يخدم الموضوع، ولا تنجرفُ إلى تناول المباحث التي لا تتصل بالموضوع إلا في حدود ما يخدم الغرض والهدف فقط.
يطرح المؤلف منهجه في هذه الدراسة، منوهًا إلى أنها تتناولُ تقويم شهادة الكشف الأثري على تاريخية أنبياء القرآن الكريم، وحدود هذه الشهادة، والمغالطات التي تُساقُ في هذا الباب، مشددًا على أن البحث كله يدور حول الشاهد الأثري؛ بما يقتضي أن يكون منهج البحث قائمًا على أصول المنهج التاريخي في شكله الأركيولوجي “الأثري”، في قراءة ما مضى من التاريخ.
يقع الكتاب في خمسة أبواب، ويتضمن الباب الواحد فصولاً، ويندرج تحت الفصول مباحثُ، وتحت المباحثِ مطالبُ.
عنوَّنَ المؤلف الباب الأول بـ”إشكاليات منهجية”، ويضم ثلاثة فصول، حيث يناقش في الفصل الأول: “حُجية الدليل الأركيولوجي في الميزان”، وفي الفصل الثاني: “شبهات حول تاريخ النبوة والمعجزات”، وفي الفصل الثالث: “التوراة في ميزان البحث الأركيولوجي”.
أما الباب الثاني فعنوانُه: “الوجود التاريخي للأنبياء منذ عصر محمد إلى عصر عيسى عليهما السلام”، ويضم أربعة فصول، أولاها: “الوجود التاريخي لمحمد صلى الله عليه وسلم”، وثانيها: “الوجود التاريخي لعيسى عليه السلام”، وثالثها: “الوجود التاريخي ليحيى عليه السلام”، ورابعها: “الوجود التاريخي لزكريا عليه السلام”.
ويناقش الباب الثالث: “الوجود التاريخي للأنبياء في الألفية الأولى قبل الميلاد”، ويقع في ستة فصول تستعرض الوجود التاريخي لكلٍّ مِن: داود وسليمان واليسع وأيوب وإلياس ويونس عليهم السلام.
فيما يناقش الباب الرابع: “الوجود التاريخي للأنبياء قبل الألفية الأولى قبل الميلاد”، ويشمل سبعة فصول تتناول الوجود التاريخي لموسى وهارون، ويوسف، وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب، ولوط، ونوح، وإدريس وآدم عليهم السلام.
أمَّا الباب الخامس فيستعرضُ: “الوجود التاريخي للأنبياء الذين لا ذِكرَ لهم في التوراة والإنجيل”، ويندرج تحته أربعة فصول، تتناول الوجود التاريخي لـ”هود”، و”صالح” و”شعيب” و”ذي الكفل” عليهم السلام.
ثم يختتم المؤلفُ كتابه بما انتهى إليه البحثُ، مؤكدًا أن البحث الأركيولوجي ليس بريئًا من الأغراض الشخصية والتحيزات العقدية؛ ولذلك تحتاج كل دعوى إلى الفحص والمراجعة.
كما نوَّه الباحث أيضًا إلى أن من الآفات الكبرى في البحث الأركيولوجي المتعلق بأنبياء التوراة وقصصهم الإفراطَ في استخراج دلالاتٍ بعيدةٍ للآثار، وتحوُّل السيناريوهات التاريخية الممكنة إلى مقدمات قطعية لاجتهادات تالية فرعية، تتحول بدورها إلى مُقدماتٍ قطعيةٍ لاجتهاداتٍ تاليةٍ، مُشددًا –في الوقت ذاته- على أن البحث الأركيولوجي يحتاج إلى قدر عظيم من التواضُع المعرفي عند قلة الآثار أو ضعف براهينها والإقرار بالجهل والتوقف.
كما يكشف “عامري” عن أنه لم يقم أحدٌ من الأركيولوجيين المخاصمين للإسلام باختبار القصص القرآني للأنبياء، وإنما سعوَا إلى إسقاط الخبر القرآني بسقوط الروايات التوراتية.
ويرى الباحث أن ربط الوجود التاريخي للأنبياء بالعثور على أسمائهم في الكشوف الأركيولوجية سذاجة؛ لأن من يسلكون هذا المسلك يغفلون عن أن جميع الأنبياء المذكورين في القرآن الكريم لم يكونوا من الحكام سوى محمد وداوود وسليمان عليهم السلام، والبحث الأركيولوجي لم يكد يعثر إلا على أسماء الحكام وأصحاب القوة المادية؛ لأن النقوش القديمة لم توضع في الأساس إلا لتمجيد الحكام.
يشدد الكتاب على أن الشبهات المُثارة حول تاريخية كلٍّ من: محمد وعيسى ويحيى وزكريا لا صدى لها في العالم الأكاديمي، ويقتصر رواجُها على الدوائر الشعبوية المولعة بالغريب والصادم والشاذ.
يختتم الدكتور “سامي عامري” بحثه المُهم بالتأكيد على أن المشككين في وجود الأنبياء القرآنيين من الملاحدة واللادينيين العرب لم يقدموا دراساتٍ علميةً تنصُر دعواهم، منوهًا إلى أن آخر أمرهم هو تقديم النتائج دون أدلتها، أو الاكتفاء بتلخيص دعاوى التيارات الغربية المتطرفة دون اهتمام بردود المخالفين.
كما يلفت الكاتب إلى أن الانفجار المعرفي الذي حصل في العقود الأخيرة في البحث الأركيولوجي لم يسهم في تطوير أطروحات اللادينيين والملاحدة العرب؛ لاكتفائهم بما اُشتهر من الأدبيات التقليدية لتيار “الحد الأدنى”.
وفي السطور الأخيرة من الكتاب يطالب “عامري” بأن يجد علم “أركيولوجيا القرآن” مكانه الذي يليق به ضمن علوم القرآن، بأن تُرصد له الطاقات العلمية والمادية، وأن يُوجَّه طلاب الدراسات العليا لكتابة رسائلهم وأطروحاتهم فيه.