مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: مصر!!

0:00

أستاذ الجغرافيا بجامعة القاهرة الدكتور عاطف مُعتمد هو أحد نوابغ هذا العصر، يراه كثيرون امتدادًا لعالم الجغرافيا الشهير الدكتور جمال حمدان رحمه الله تعالى، وبمعطيات العصر وتحولات الزمان يمكن القطع بأنه النسخة المُعدلة “المُطورة” من صاحب كتاب “شخصية مصر”، وفوق ذلك كله..هو صورة مثالية لأستاذ الجامعة الذي كان ولم يعد! يحظى حساب الأستاذ الكبير على موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” بمتابعة عظيمة، وتحظى منشوراته بتقدير أعظم. يطرق الجغرافي البارز بأسلوبه المُحكم الرصين كل طرائق المعرفة، ولكن تبقى كتاباته في تخصصه العلمي الأكثر تميزًا وحضورًا وبهاءً وألقًا. في مصر عشرات أو مئات مثل الدكتور عاطف مُعتمد علمًا وحِكمة وفهمًا ونضجًا، ولكن جرى تهميشهم لأسباب لا تخفى على أحد، فيما يتم التمكين للصغار ومَن دونهم. باعتباره باحثًا واستاذًا جامعيًا ومفكرًا مرموقًا.. كتب “مُعتمد” منشورًا ذا شجون، متسائلاً في عنوانه: هل ما زالت مصر “هايبر ماركت”؟! وفي التفاصيل..يحكي أستاذ الجغرافيا أنه عندما كان يُنهي رسالته للماجستير في العام 1996، ويستعد للدخول لمرحلة الدكتوراه، علم أن هناك شابًا عربيًا يدرس الدكتوراه، واستطاع بأمواله الوفيرة أن يُجند ثلاثة من المعيدين الفقراء في جامعة مصرية عريقة؛ ليجهزوا له رسالته: هذا يجمع له البيانات والمراجع، وثانٍ يرسم له الخرائط، وثالث يكتب له الفصول. وما كان على الباحث العربي إلا أن قرأ الرسالة جيدًا قبل المناقشة، ورغم ذلك وقع في أخطاء فادحة فاضحة كشفت عن استهتاره بالجميع!!
يستطرد أستاذ الجغرافيا بجامعة القاهرة: “حصل هذا الشاب العربي على الدكتوراه بعد أن أغدق على المعيدين الثلاثة، ونقلهم نقلة ملموسة في المظهر والمسكن والملبس، مقارنة ببقية الزملاء، مُعقبًا: “ليت القصة البائسة تنتهي عند هذا الحد، لكن هذا الشاب العربي بعد أن عاد إلى وطنه حاملا الدكتوراه من تلك الجامعة المصرية العريقة استلم مسؤولية وزارية في التعليم العالي بحُكم ندرة الحاصلين في بلاده على الدكتوراه”!!
اللافت في الأمر –كما يقول الدكتور عاطف مُعتمد- أن من بين “أهم القرارات التي اتخذها صاحبنا كان استصدار لائحة بمنع إرسال مُبتعثين من بلده إلى تلك الجامعة المصرية التي حصل منها هو نفسه على الدكتوراه”، منوهًا إلى أن “تلك الحادثة المؤلمة المُضحكة المُبكية نادرة يمكن أن تمثل 1 في الألف من إجمالي الوضع العام في الجامعات المصرية، ولكن قبل 28 عامًا”.
يقول الدكتور عاطف مُعتمد فيما يمكن وصفه بـ”المرثية”: “كنا نؤمن إيمان العقيدة آنذاك بأن مصر كبيرة بما يكفي، كبيرة بحجم نهر فيَّاض كبير اندسَّ إليه سرسوب تلوث فاستطاع النهر العظيم أن يبتلعه ويغسل أدرانه”، مستدركًا: “لكن اليوم أصبح الوضع بالغ السوء، صارت هناك جامعات مصرية في الدلتا مشهورة بأنها تُسهم في حصول الطلاب العرب على الدراسات العليا مقابل مبالغ معروفة ومسالك مطروقة وأساليب مجربة، وهناك أرقام بالأسعار حسب التخصص، وهناك أسماء لكل جامعة مصرية حسب الدولة العربية، وقد تفشت هذه الحالات لدرجة أن ما فعله صاحبنا العربي أصبح قانونًا فعليًا في عديد من الجامعات الخليجية التي ترفض استقبال أي أستاذ مصري إلا إذا كان معه دكتوراه من جامعة أوروبية، وبالمثل ترفض تعيين مواطنيها إذا كانوا حاصلين على الدكتوراه من بعض الجامعات المصرية”!!
يتساءل أستاذ الجغرافيا بنبرة تبدو حزينة قاتمة: هل كانت هذه هي صورة مصر قبل خمسة عقود؟ ثم يعقب قائلاً: “إذا سألت المواطنين في الخليج والسعودية، ممن هم في مثل عمري “الخامسة والخمسين”، سيقولون لك: مصر هي الدولة صاحبة الفضل التي جاء منها المعلمون والأساتذة وعلموا الآباء”.
يواصل الدكتور عاطف مُعتمد سرديته: “كانت مصر حتى سبعينيات الثورة النفطية مستودعًا كبيرًا، أو قل بلغة السوق اليوم: كانت “هايبر ماركت”، فيه من كل الأصناف، تستطيع أن تحصل منه على العلماء العباقرة والأئمة الفقهاء أو تجد فيها ضعاف النفوس والمرتشين والذين دفعهم الفقر إلى استعجال الثراء بمخالفة الضمير”، مُستلهمًا ما كتبه “ابن بطوطة” عن مصر قبل سبعة قرون: “بها ما شئْتَ من عالِم وجاهل، وجادٍّ وهازِل، وحليم وسفيه، ووضيع ونبيه، وشريف ومشروف، ومنكَر ومعروف”.
هنا يتوقف “معتمد” قليلاً عند نبوءة المفكر المصري العظيم جمال حمدان قبل 40 سنة، عندما تنبأ بأن تتمكن دول الخليج الثرية بعد الثورة النفطية من “سرقة موقع مصر الجغرافي”، مردفًا: “والحقيقة أن مخاوف جمال حمدان كانت وطنية غيورة أكثر منها علمية صِرفة، ولو كان عرب المشرق سرقوا موقع مصر الجغرافي، لقلنا اليوم: إن هذه ليست سرقة، بل انتقالاً للأهمية الجغرافية من بلاد النيل إلى المشرق، وما الحياة في الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيك إلا تناوب المواقع، ولقلنا: إن انتقال الأهمية إليهم بسبب البترول هو على سبيل “إعارة” المواقع الجغرافية إلى حين، كما كنا نعير الأساتذة والفنانين والأدباء والعلماء ثم يعودون إلينا مرة أخرى” ومشددًا على “أن ما خشي منه جمال حمدان هو أقل بكثير مما وقع وحدث على طول الجبهة الشرقية”!
بعد استعراض جانب من الأزمة التي يبدو أنها تؤرقه أشد الأرق مثل غيره من الوطنيين الحقيقيين غير اللاهثين وراء مصالح شخصية، يقول الأكاديمي البارز: “لكن خوفي أيها السادة أنني لستُ على يقين أن هذا المستودع أو “الهايبر ماركت” ما زالت به كل السلع العظيمة، أخشى أن تكون كل السلع العظيمة قد نفدت أو تكاد، ولم يبقَ في الماركت سوى المساخر والمهازل، وهي بالمناسبة آخر السلع القابلة للبيع”!
بعقلية الأستاذ الجامعي المُتمكن..فإن الدكتور عاطف مُعتمد لم يكتفِ بعرض الأزمة بمستوياتها وجوانبها وتداعياتها الوخيمة، ولكنه يطرح الحل من وجهة نظره المثالية، مشددًا على أن “الحل بسيط ومؤلم ويحتاج نفسًا طويلاً، لكنه مضمون النجاح، وهو: “إنقاذ التعليم الجامعي، ومن قبله التعليم المدرسي، ومنح حرية الكلمة والفكر، وفتح المجال العام وتداول السلطة واسترداد الحياة الحزبية الحقيقية والحياة البرلمانية الحقة، لا الشكلية أو التمثيلية، وإعطاء قبلة الحياة الأخيرة للصحافة لتفيق من موتها الموعود”. يعتقد أستاذ الجغرافيا أنه لو تم البدء في تنفيذ هذه الحلول، فإن مصر يمكن أن تسترد قوتها السابقة خلال عشرين عامًا، ولكن لو لم تفعل، فإن المصريين سوف ينتظرون مائة عامًا أخرى.
وهنا نسأل، وحقٌّ لنا أن نسأل: ألا تستحق مصر وضعًا أفضل وأكثر تميزًا في كل المجالات؟ فوضى رسائل الماجستير والدكتوراه تحولت إلى مافيا وبزنس كبير..فمتى يتم التدخل في ضبط هذا الملف الذي يستغله البعض في الإساءة إلى مصر؟ التعليم الجامعي وقبل الجامعي يعاني أشد المعاناة..فماذا فعلت الحكومة الحالية أو السابقة في سبيل إنقاذهما؟ كيف ولماذا تم تقليص دور الحياة البرلمانية والأحزاب السياسية والتضييق على الصحافة على هذا النحو؟ ما الذي يمنع؟ هذه أمور لا تحتاج أموالاً ولا قروضًا ولا تخفيف أحمال، ولكن تتطلب رغبة سياسية مخلصة، وأفاقًا واسعة، ورؤية أكثر عمقًا، وعقولاً رشيدة، وسواعد فتيًّة. مصر كانت كبيرة بما يكفي، ويجب أن تصبح كبيرة مرة أخرى كما كانت؛ حتى لا يتطاول عليها الأقزام، وينال منها الصغار، ويزدريها محدثو النعم؛ لأن اسم مصر عند كثيرين من الوطنيين المخلصين كان ولا يزال وسوف يبقى “أحب وأغلى الأشياء”!

زر الذهاب إلى الأعلى