مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: بومٌ وغربانٌ..اضمحلال دولة التلاوة المصرية!!

0:00

في مقدمة كتابه المهم جدًا: “العِبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومَن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر”..يتحدث “ابن خلدون” عن أسباب اضمحلال الدول وتفككها وزوالها تدريجيًا. بشكل أو بآخر يتماسُّ ما عدَّده “ابن خلدون” في كتابه عن سقوط الدول وضياعها مع اهتزاز عرش دولة التلاوة المصرية، واقترابها من أن تكون أثرًا بعد عين. لا تعجب سيدي القاريء ولا تندهش؛ فتلك حقيقة ساطعة لمن يعلم بواطن الأمور وخفاياها وما استتر منها، ولا تنطوي على أية مبالغة. وإذا كانت الدول التي تحدث عنها “ابن خلدون” في كتابه “واقعية”، ودولة التلاوة المصرية “افتراضية” أو “معنوية”، فإن ذلك لا يحول دون الربط، ولا يمنع المقارنة، ولا يحظر المقاربة. وإذا كان “ابن خلدون” قد حدد 3 جراثيم أساسية تكمن وراء انهيار الدول، فإن هناك عشرات الجراثيم التي تقف وراء تخريب دولة التلاوة المصرية وتقويض دعائمها، وعشرات الجراثيم الأخرى التي تحول دون استعادة وعيها ورشدها وتصويب مساراتها، ومئات الجراثيم التي تستفيد من هذا الواقع الآسن الآثم!
تاريخيًا..بدأت إرهاصات اضمحلال دولة التلاوة المصرية في نهاية النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي؛ حيث يجمع كثيرون جدًا من أهل الاستماع والفهم والعلم والاختصاص أن القاريء الراحل محمد صديق المنشاوي 1920-1969 -الذي تم اعتماده في النصف الثاني من العام 1954- هو آخر القراء الأكابر العِظام، وأن الإذاعة لم تعتمد من بعده قارئًا واحدًا يقترب من القراء الخمسة أو العشرة أو العشرين الكبار. ربما يرى البعض الآخر أن هذا الحُكم جائر جدًا، وأن الإذاعة استقبلت قراء “جيدين” بعد هذا التاريخ المذكور آنفًا. بالتأكيد كان هناك قراء “جيدون”، ولكنهم أبدًا لم يقتربوا من مكانة “المنشاوي” ونوابغ القراء مثل: محمد رفعت ومصطفى إسماعيل وعبد الباسط والبنا والحصري رحمهم الله جميعًا، ولم يواكبوا عبقريتهم وموهبتهم من قريب أو بعيد؛ ودليلُ ذلك هو التفاوت الصارخ بين شعبية الفريقين وجماهيريتهم وحب الناس لهم.
قبل “المنشاوي”.. كان مسؤولو الإذاعة المصرية هم مَن يُنقبون بأنفسهم عن المواهب القرآنية ويَسعوَن إليها سعيًا، وقد فعلوا ذلك مع الشيخ “محمد” نفسه، عندما ذهبوا إليه في قلب الصعيد. خلال هذه الفترة..كانت لجان الاستماع تراقب الله في اختباراتها واختياراتها، وكانت تعتبر عملها رسالة تبتغي بها وجه الله تعالى؛ لذا كانت النتيجة قراءً من العيار الثقيل. كان كل قاريء منهم مدرسة مستقلة بذاته، لا يشبه أحدهم الآخر. ولكن مع تعاقب الأيام والسنين..تحولت هذه اللجان إلى مسوخ وأشباح وأنفاق مُظلمة، وغدت بابًا لمنزوعي الموهبة وعديمي الجدارة وقليلي الحفظ، وأصبح الالتحاق بالإذاعة مشروطًا بأمور أخرى، ليس من بينها على الإطلاق: الحفظ والإتقان والكفاءة والجدارة والموهبة. هناك قراء إذاعيون لا يحفظون ربع القرآن الكريم!!
تفاقمت الأزمة تدريجيًا حتى اُبتليت الإذاعة واُبتلينا معها بقراء يتحدُّون البُومَ والغربان في رداءة أصواتهم؛ فضلاً عن عدم حفظهم وعدم قدرتهم على التلاوة من المصحف المفتوح أمام أبصارهم في قرآن الفجر. وهنا..تجدر الإشارة إلى التذكير بأنه كان من بين صُناع مجد دولة التلاوة المصرية قراء مكفوفون، وأبرزهم: الشيخ علي محمود وتلميذه الشيخ محمد رفعت، ورغم ذلك عُهد عنهم جميعًا: الحفظ والإتقان التامَّان، وخلو تلاواتهم من اللحون ومخالفة الأحكام، وهذه مفارقة أخرى فارقة وكاشفة!
لو كان على رأس دولة التلاوة خلال الفترة الماضية رجال حكماء أشداء قادرون على التدخل وكبح جماح هذه الرداءة، ربما كان الأمر قد اختلف، ولكن بدا أن هناك مَن يُبارك استمرار هذه الرداءة ويرعاها ويمنحها حصانة، حتى أصبحت عنوانًا بارزًا لمرحلة بائسة حزينة؛ ودليلُ ذلك هو الهجوم الكاسح الذي يتعرض له أي قاريء مُنضبط مُلتزم مُتقن مُجيد، حيث يهيلون عليه التراب، ويحاربونه ويطارودنه، حتى يجبروه على الاعتزال أو الهجرة خارج الديار!
كما تخلت الإذاعة عن دورها الذي يجب أن تضطلع به في البحث والتنقيب الاختيار لقراء جدد؛ يُكملون مسيرة مَن سبقوهم بإحسان وإتقان، فإنَّ النقابة المختصة أيضًا -التي كان يجب عليها أن تكون سندًا منيعًا أمام هذا الاضمحلال- تواطأت ولا تزال تتواطأ مع هذه الحالة حتى كتابة هذه السطور، ولا تتدخل ولا تكشر عن أنيابها إلا مع قراء ضعاف مغمورين لا يعرفهم أحد، فيما تضع رأسها في الرمال أمام غيرهم؛ فالمصالح تتصالح، و”الألف جنيه غلب الكارنيه”! نظرة سريعة إلى أسماء مجلس إدارة النقابة تكفي وتصيب بالحُزن.. “بضم الحاء وفتحها”! وزارة الأوقاف عندما أقحمت نفسها مؤخرًا في هذا الملف زادت الأمر سوءًا؛ حيث عظَّمت من شأن أضعف القراء وأهونهم قدرًا، وكان هذا تطورًا طبيعيًا؛ طالما أن الوزير المختص يومئذ لا يتقن قراءة فاتحة الكتاب!
لقد اتفقت إرادة جميع الأطراف ذات الصلة –طوعًا أو كرهًا- على تدمير ما تبقى من دولة التلاوة المصرية، وغابت أية إرادة جادة ومخلصة للإصلاح، وارتضى الجميع أصوات البوم والغربان و”الديابة” وصفقوا لها تصفيقًا، بل ومنحوا لأصحابها الأوسمة والنياشين والتكريمات، بل ورفضوا أية نصيحة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، واعتبروا أصحابها ناقمين حاسدين حاقدين عليهم وعلى أجورهم التي يتلقفونها من وراء إهانة القرآن الكريم وازدرائه في محافلهم وجلساتهم وأمسياتهم، بعدما اتخذوه وسيلة للاسترزاق والتربح والتباهي. اضمحلت دولة التلاوة المصرية على غرار اضمحلال الدول والأنظمة السياسية التي ترفض النصح والإرشاد وتصحيح الأخطاء، كما كتب “ابن خلدون” في كتابه الأشهر، وانقلبت المعايير والضوابط الحاكمة رأسًا على عقب، حتى وجدنا أسوأ قاريء في تاريخ مصر يغمز ويلمز ويجرح مكانة الشيخ محمد صديق المنشاوي نفسه، ورغم ذلك فإن الأسوأ لم يأتِ بعد..وسوف يأتي!!

زر الذهاب إلى الأعلى