مقالات الرأى

مختار محمود يكتب: إذاعة القرآن الكريم من القاهرة “سابقًا”!!

0:00

هل حان الوقت أن نكتب –وقلوبنا تعتصر ألمًا- نعيًا في إذاعة القرآن الكريم، ونتبادل فيها العزاء ونتشاطر البكاء، ونذكر محاسنها بعدما أصبحت أثرًا بعد عين؛ بفعل فاعل أو فاعلين مُجردين من كل نخوة أو ضمير؟!
انطلقت إذاعة القرآن الكريم قبل ستين عامًا كبيرة؛ وزاد شأنها وتعاظم عامًا بعد عام؛ حيث كان الهدف نبيلاً، وكانت الرسالة سامية، لتبدأ في السنوات الأخيرة مرحلة من الانطفاء والهبوط الاختياري. نعم هو ليس هبوطًا اضطراريًّا، ولكنه هبوط تتوافر فيه جميع عناصر العمد والقصد والترصد والتخطيط وسوء النية، حتى لو كان من خارج جدرانها، ولا ينكر هذا الهبوط إلا مستفيد من تلك الأوضاع البائسة التي آلت إليها. ومن أولئك المستفيدين مَن يطلبون التجديد في مناصبهم، بعدما انتهت صلاحيتهم، ويجدون ضالتهم المنشودة في أن يكونوا معاول هدم لهذا المنبر الإعلامي الذي كان عظيمًا!
تلك الحالة دفعت قطاعات عديدة من مستمعي أول إذاعة دينية وُضعت للناس بالأرض إلى الانتقاد المستمر لها أو الانصراف عنها تدريجيًا، والبحث عن بدائل أخرى أحدث نشأة، لا يشوبها ما يشوب إذاعتهم -التي كانت مُفضلة- من فوضى إعلانية تلتهم المساحات المخصصة للتلاوات القرآنية، وفوضى برامجية تتنافس في التكرار والسطحية، وحجب أصوات عديد من أعلام القراء والعلماء، وتفاصيل أخرى عديدة، يعلمها القائمون على مقاليد أمورها، والمُحرِّضون عليها، ولا ينكرونها، ولكن يبقى شعارهم: “ما باليد حيلة..هذه أمور خارجة عن إرادتنا”، وهم ليسوا صادقين فيما يزعمون ويرددون بنسبة 100%!
هذه الشيخوخة المبكرة نسبيًا التي تكتنف إذاعة القرآن الكريم، ليست طارئة، ولكنها ممتدة وممنهجة منذ سنوات ليست قليلة، عندما تسللت إليها الإعلانات التجارية رويدًا رويدًا قبل أن تتوغل في كل ثنايا وأعماق خريطتها البرامجية، حتى وصل الأمر إلى تقليص الثلاثين دقيقة المخصصة لتلاوة الشيخ محمد رفعت صباح كل يوم؛ لتصبح عشرين دقيقة، ويتكرر الأمر بشكل أكثر فجاجة قبيل الأذان وبعده، فضلًا عن الفواصل الطويلة والممتدة صباحًا وفجرًا، ناهيك عن التخلص من الكوادر الإذاعية اللامعة أو تقييدهم، مقابل التمكين لآخرين من ضعاف المستوى وقليلي الحيلة والمؤلفة جيوبهم؛ لأسباب لم تعد خافية على الجميع.
كانت إذاعة القرآن الكريم منذ يومها الأول أيقونة الإذاعات وغذاء الروح وسكينة النفس، وظلت في المقدمة بين جميع المحطات والإذاعات في كثافة الاستماع، حيث احتلت مكانة خاصة في نفوس عموم المصريين؛ لاضطلاعها بمسؤولية توعيتهم وتثقيفهم والارتقاء بأخلاقهم وسلوكياتهم، قبل أن يلتهم شيطان الإعلانات جزءًا كبيرًا من محتواها الأصلي، وهو تقديم آيات الذكر الحكيم والأحاديث الشريفة والبرامج الدينية الجادة والرشيدة والإصلاحية على مدار اليوم.
أمام هذا التردي والعوار البالغ.. شهدت السنوات الماضية مبادرات شخصية من بعض الأسماء البارزة بمقاطعة إذاعة القرآن الكريم، وأرجع أصحابها ذلك إلى تراجع مستواها العام، وما اعتراها من مناطق ضعف كثيرة غير توغل الإعلانات، مثل: تراجع المساحات المخصصة للتلاوات القرآنية، وحجب بعض القراء المهمين مقابل التمكين لأصوات شديدة الضعف تسللت إلى الإذاعة في غفلة من الزمن عبر لجان اختبار غير صارمة، والتمكين لمتحدثين ودعاة محدودي القدرات والعلم والفهم والضمير!
اللافت في الأمر أن الحصيلة المُعلنة لإعلانات إذاعة القرآن الكريم لا تمثل رقمًا مهمًّا في معادلة الإعلانات؛ إذ يتم تقديرها بـ30 مليون جنيه فقط سنويًّا، كما صرح رئيس الإذاعة محمد نوار، ربما زادت الحصيلة قليلًا، ولكن يبقى الرقم هزيلًا ولا يستحق التضحية بواحدة من أهم منابر الوعي والتثقيف والتربية التي كان يجب تنزيهها وتطهيرها من هذا العبث على غرار الإذاعات والفضائيات الدينية العربية التي بنت مجدها على تراث إذاعة القرآن الكريم في الأساس، وتبث محتوياتها عبر الساعة دون هذا الطوفان الخبيث من الإعلانات. يحدث هذا في الوقت الذي تحافظ فيه محطة إذاعية مثل: “إذاعة الأغاني” على شعارها الخالد منذ ظهورها: “قليل من الكلام..كثير من الأغاني”!
ومن نافلة القول هنا أن نذكر ما قد يستحي غيرنا من ذكره، وهو أن شركات وجهات، ليست فوق مستوى الشبهات، تحرص على إذاعة إعلاناتها عبر أثير إذاعة القرآن الكريم تحديدًا؛ غسلاً لسمعتها بمبالغ زهيدة، وخداعًا لمستمعين لا يزالون يضعون بعض الثقة في الشبكة التي لم تعد غرَّاء!
ورغم كل ما قد سلف وغيره كثير جدًا..فإن الأزمة لن تنتهي قريبًا؛ خاصة مع ارتفاع عدد الإعلانات إلى نحو 170 إعلانًا، وهو رقم قياسي، وقد يتضاعف خلال مواسم العمرة والحج وشهر رمضان، وأصبح وجود مندوبي الإعلانات داخل الإذاعة المغلوبة على أمرها شيئًا معتادًا، وقد يصل الأمر إلى تدخلهم في أدق تفاصيل الخريطة، للتمكين لطوفان الإعلانات الذي لا يُبقى ولا يذر، حتى اقتحم واحدًا من أهم الفقرات الثابتة وهي تلاوة السابعة صباحًا بصوت قيثارة السماء الشيخ محمد رفعت وإفسادها، ولم يتبقَّ أمام هذا الطوفان الشيطاني الجامح سوى الدقائق المخصصة للأذان؛ بزعم أن هذه الدقائق تحظي بنسبة استماع أكبر من غيرها.. ولله الأمر من قبل ومن بعد!

زر الذهاب إلى الأعلى