كثيرًا ما تخيَّل الخط الوهمي الذي يفصل بين خارج العمارة وداخلها بأشكال عدَّة، فمرةً يراه حائطًا أصم بلا نوافذ أو أبواب أو حتى فرجة صغيرة كي يعبر منها إلى شقته الكائنة في منتصف المسافة بين ثلاثة طوابق أسفلها وثلاثة أعلاها.
يتخيل الخطَّ حائطًا، ويتخيل نفسه أثيرًا ينفذ من مسامه، ثم يستعيد هيأته الإنسانية صاعدًا إلى شقته مغمض العينين، متجاهلًا الأصوات الصادرة من إحدى الشقق، وأحيانًا يتخيل الخط الوهمي مرآة ملساء لامعة يرى نفسه فيها ممزق الروح، مهلهل الكرامة، وإذا أمعن النظر فيها رأى كأنَّ شبحًا يصفعه على قفاه، فيضطر لاختراق المرآة ليجد الدماء حارة تسيل على بلاط الردهة المؤدية إلى سلم، سيسلبه ما تبقى له من قوة حتى يهيئ له أنه سيدخل شقته زاحفًا على بطنه.
رحلة يومية يعانيها كلما أغلق باب سيارته متجهًا إلى البيت الذي استأجر فيه شقة، فرح يومها عندما وجدها في المنتصف.
مذ استقر به المقام ساكنًا جديدًا لم يشعر به أحد، ينزل باكرًا حاملًا حقائب الصغار، يتقدمهم في صمت، ويتبعونه وهم يطاردون آثار النوم في أعينهم، ويعود متأخرًا في صمت تؤرقه الخيالات التي تُصَوِّر له البيت كزنزانة لن يغادرها، ظلَّ الحال أعواما لم يتغير، حتى اخترقت أذنيه ذات مرة تأوهات امرأة وضحكات رجل، مدَّ لحظتها الخطى صاعدًا غير مصدق، لم يشأ أن يخبر زوجته وأولاده، ونام ليلة صاخبة بأحلام لم يرَ مثلها، أصبح يبطئ الخطى كلما اقترب من هذه الشقة، فيسمع صوت المرأة تتأوه في غنج، بينما ضحكات الرجل مختلفة، دارت برأسه الظنون وقرَّر المتابعة.
أصبح يدلف سريعًا متجاهلًا الخط الوهمي، يسابق نفسه ربما عرف الحقيقة، وبينما هو يقترب من الشقة الذي يرتاب فيها إذا ببابها ينفتح فجأة ليرى ما لم تصدقه عيناه، انسلخ الرجل مسرعًا نحو السلم كلص أفلتته يد الشرطي، هول المفاجأة ألجمه، وصعد يجر أذيال الخيبة، وتَجَسَّد له الشبح الذي يصفعه على قفاه هابطًا من الطابق الذي يعلو شقة الارتياب، سأله برفق، هل أنت جارنا في العمارة، فرد عليه نعم، وأنت؟
قال له الرجل: أنا جاركم منذ زمن بعيد، أظنك الجار الجديد؟
ردَّ عليه: نعم أنا الجار الجديد الذي مرَّ عليه هنا سبع سنوات أو يزيد.
قال له جاره: أنا هنا منذ ثلاثين عامًا أو يزيد.
ابتسم وسأله في بلاهة: وهل لفت نظرك حال الشقة التي تسبقك، وأشار نحو بابها،
اكتفى الرجل بقوله: اصعد إلى أولادك ولا تشغل بالك بما يجري.
جرَّ قدميه والصفعات تتوالى على قفاه، والدماء كأنها ماء انسكب في هدوء على سلم العمارة.
ذات ليلة توقف أمام باب شقة الارتياب قليلًا، حتى سمع أصواتًا مختلطة، نساء ورجال، ضحكات ماجنة وكلمات نابية، ورائحة أدخنة تفرُّ هاربة من عقب الباب، تذكر الحديث الذي يلح عليه منذ وقت طويل، «مَن رأى منكم منكرًا فليغيره». دوَّت صرخته في منتصف المسافة الفاصلة بين مدخل البيت وآخر طابق فيها، هرول الجميع نحوه، استطلعوا الأمر، أشار نحو شقة الارتياب، فتململ البعض وانسحب آخرون، لكنهم عادوا لما وصفهم بـ…
هنا خرجت المرأة التي طالما سمع غنجها تئن متلذذة، سبَّته بأقذر الألفاظ، بينما صفعه أحد الجيران على وجهه، وآخر ضربه على مؤخرته، ورابع جذبه من قميصه، وخامس أعمل مديته في خاصرته، وسادسهم أفلت كلبه نحوه، كان قد سقط غارقًا في دمائه، تولى الكلب نيابة عنهم جرّه من أصابع قدمه اليمنى، وبينما كانت المرأة تعاود ضحكها وكان الجيران يغلقون أبوابهم، كان الكلب قد أنهى مهمته في إلقائه خارج العمارة بعد أن عبر به الخط الوهمي الذي طالما أزعج الساكن الجديد، واكتفى ذووه بالبكاء والصراخ من الشرفة العالية.
—
عضو اتحاد كتاب مصر
عضو مجلس إدارة نادي القصة