قرأت لك

قراءة متأنية : فى كتاب “مستقبل الثقافة فى مصر العربية” للدكتور سليمان حُزين (8)

قراءة يكتبها : د.حامد عبد الرحيم عيد

“حضارة مجمع الارضين ومفرق البحرين”

تحدثت فى المقالات السابقة عن الستة فصول الاولى من كتاب “مستقبل الثقافة فى مصر العربية” للدكتور سليمان حُزين وجاءت بالترتيب: “جذور الثقافة فى مصر العربية”، “ثقافة مصر فى مسيرتها مع الحضارة والتاريخ”، “ثقافة مصر العربية المعاصرة والمؤثرات الداخلية والخارجية بها”، وجاء الفصل الرابع بعنوان مهم حول “المتغيرات المعاصرة فى الغرب والشرق وفى العالم العربى” وكيف كان صداها المرتقب فى الفكر والثقافة، ثم الفصل الخامس وعنوانه “تتابع أجيال الثورة فى مصر العربية المعاصرة” عن بحث مقارن فى دراسة الشخصية الثقافية وتاريخ الحضارتين القديمة والحديثة فى بلدين عريقين هما: مصر والصين، وتم فيه توضيح الفرق بين الشخصية الحضارية لكل من مصر والصين، ثم الفصل السادس الذى جاء بعنوان “مشروع ميثاق العمل الثقافى فى مصر”.
واليوم نأتى الى الفصل السابع بعنوان “فلسفة المعرفة والتعليم فى مصر عبر العصور” يقول د. سليمان حزين أن لكل منظومة تعليمية أو حتى ثقافية فلسفتها التى تصدر بين الافراد والجماعات، كما أن لكل حضارة طابعها الفكرى التى تتميز بها عن سائر الحضارات، ثم عرج على الحضارة المصرية التى أعتبرها من أقدم الحضارات التى تميزت بأن لها فلسفتها الخاصة فى الفكر والتعليم والثقافة ثم زاد عليها بصفة الاستمرارية خلال ما يناهز ثمانية الاف سنة من عمرها والتى سجلها التاريخ بآثارها والاتها وأوانيها الفخارية أو ما كتب على جدران معابدها.
ويقسم استاذنا مراحل التواصل والذى يعتبره تقسيم “الملائمة” للحضارة المصرية على سبعة مراحل تبدأ مرحلتها الاولى قبل ان يبدأ التاريخ المكتوب حيث أعتبرها أقدم جماعة عرفت نظم الفكر والمعرفة والتعليم، وتم ربط بدايتها بعصر الزراعة والاستقرار وهو عصر الحضارة المستقرة المتحضرة بمفهومها المتعارف عليه وارتباطها بنهر النيل واعتماد الحياة كلها عليه حيث بدأ الانتاج باستنباط النبات وأستئناس الحيوان والارتباط بالبيئة حيث ظهرت التحولات الاجتماعية وانتقال القبائل الى ضفاف النيل للاقامة واقترنت المدنية الحضارية بمظاهر اجتماعية وسلوكيات عاطفية ميزت الانسان عن الحيوان.
أما المرحلة الثانية الكبرى والتى يطلق عليها المرحلة الفرعونية واستمرت طوالها، والتى تضمنت تسجيل المعرفة سواء بالرسم أو التصوير نقشا على اسطح الحجر او على العظام او الخشب منها ما بقى ومنها ما اصابه الفناء بفعل الزمن، وأصبح المصرى قادرا على أن يحفظ تراثه المادى والحضارى وما يعبر به عن حياته الوجدانية والفكرية والتى تعتبر بدايات ترابط المعرفة بين الاجيال وتوارث التعليم والمعرفة، لم تقف مصر عند ذلك الحد بل أمتدت بمعارفها الى العالم الخارجى فعلمت اليونان أقدم معارفها وظهرت أول جامعة مصرية فى أون (أو عين شمس القديمة) لتصبح مركز للمعرفة والحكمة فى آن واحد وجمعت بين معارف الدنيا والفكر النظرى والتطبيقى وبين حكمة الدين والحياة الآخرة والتى يعتبرها د. سليمان حزين أنها كانت القاسم المشترك الاعظم بين مراحل المعرفة فى مصر منذ قبل الاسرات مرورا بالمرحلة الفرعونية حتى المراحل اللاحقة.
أما المرحلة الثالثة فتبدأ بالعهد الاغريقى الرومانى، وتعتبر اقصر من المرحلتين السابقتين حيث أثرت الشخصية المعرفية المصرية بما جاورها من حضارت خاصة والتى تقع فى الشمال تجاه البحر المتوسط، وأنتقلت مراكز الفكر من طيبة وأون الى الاسكندرية عاصمة الاسكندر حيث باتت مركزا للاختلاط الفكرى والروحى، وكانت مكتبتها ومتحفها وعاء اختلط فيه فكر مصر القديمة وحكمته وما جاء بعده من حكمة العهد الاغريقى وهنا أختلطت اللغة المصرية القديمة بلغة اليونان وفكرهم وحكمتهم. وبذا كانت مرحلة الاسكندرية التى أمتدت الى مطالع المرحلة العربية الاسلامية أول مرحلة عالمية فكرية معرفية وحكمية عرفها تاريخ الانسانية كلها، وكان لموقع مصر الجغرافى المتوسط اثرا فعال ولم تعد مصر تعمل بنفسها ولا لنفسها بل اصبحت وسطا للعالم كله، فعهد العالمية الاسكندرية كان فاصلا خطيرا وهاما لتاريخ مصر الحضارى فمصر فى العهد الفرعونى كانت مصرية خالصة تفردت بالعلم والمعرفة والروح المصرية الخالصة، أما فى العهد السكندرى وما بعده فقد شاركها العالم الخارجى وسار بتاريخها فى مسار جديد لا يزال ماثلا حتى اليوم.
وتأتى المرحلة الرابعة والتى أطلق عليها د. سليمان حزين “العالمية والاسلامية” أو عالمية الفكر على ارض مصر، حيث جاءت بمفهوم وتطبيق جديد غير مفهوم عهد الاسكندرية واتسع نطاقه كثيرا. وقد بدأت بالعهد المسيحى وقاعدته فى الاسكندرية وأمتدت خلال العهد الاسلامى وكان قاعدته القاهرة وجامعها الازهر الشريف، وهنا غلبت روح مصر وسماحتها على كل ما عداها، فقد أراد الفاطميين جعل الازهر شيعيا، فأبت مصر الا ان جعلته للعالم الاسلامى كله ولدين الله الرحب فى المشرق والمغرب. وهنا ظهر تأثير مصر البالغ الى اقطار العالم الاسلامى كله فيما وراء البر والبحر، واستمرت أيضا فترة ليست بالقصيرة.
أما المرحلة الخامسة فقد بدأت بإتصال مصر بالحضارة الاوربية والتى بدأت أولا بالغزو والاحتلال التركى فى القرن السادس عشر، وقبل أفول القرن الثامن عشر كانت الحملة الفرنسية تطرق ابواب الشرق الى مصر، والتى زاد عنها الازهر بشيوخه وقادته. وهنا بدأت مرحلة محمد على الذى أدخل نظام التعليم الاوربى الحديث بعيدا عن الازهر لتقوية الجيش وكان ان أنشأ مدارس للهندسة والطب البيطرى، والطب. ومع مطالع القرن التاسع عشر والتى استمر فيها الاستعمار التركى ثم البريطانى، وكانت تلك مرحلة تطور خطيرة فى حضارة مصر المعرفية بل أنها وضعت قواعد حضارة مصر المعرفية وثقافتها وتعليمها والتى كانت التمهيد الواقعى للمرحلتين السادسة والسابعة الى عهدنا الحاضر. وكانت المرحلة السادسة التى بدأت منذ اوائل القرن العشرين بأرهاصات انشاء الجامعة المصرية، وقد أعتبرها لحظة خروج الثقافة المصرية الوطنية بعيدا عن عهود الاستعمار المادى والفكرى وطغيان الفكر الاجنبى وأستمرت حتى قيام الثورة المعاصرة بعد عام 1952. أما المرحلة السابعة والتى كانت استمرارا وتجديدا للمرحلة السادسة ويمكن أن نعتبرهما مرحلة واحدة مستمرة لتاريخ المعرفة والنهضة الفكرية والثقافية والتعليمية لا سيما أن ثورة يوليو يمكن اعتبارها تجديدا لثورة 1919.
لقد تميزت تلك المراحل الطويلة التى مرت بها فلسفة مصر الفكرية والتعليمية والثقافية خلال العصور منذ ان بدأ فجر التاريخ الحضارى على أرض وادى النيل بسمات خالدة كانت عنصرا اساسيا فى تخليد فكرها وثقافتها مما جعلها اقدم الثقافات وأكثرها استمرارا ولا يدانيها حضارة أخرى الا حضارة الصين كما كانت مصر حضارة التوسط والاتصال بحكم موقعها الجغرافى بين الشرق والغرب والجنوب والشمال.
ويمكننا القول أن تاريخ الفكر المصرى كان صورة ناصعة من تاريخ الحضارة والمعرفة الانسانية فى العالم القديم بين قاراته الثلاثة وبحاره التى تحيطها فكان كما يطلق عليه”حضارة مجمع الارضين ومفرق البحرين”.
——————-
استاذ بعلوم القاهرة
[email protected]

زر الذهاب إلى الأعلى