راندا الهادي تكتب: اللحم المكشوف!!
كم أعشقُ ممارسةَ هذه اللعبةِ مع القراء، وهي ابتداءُ مقالي بعنوانٍ يأخذُهم بعيدًا عن المحتوى الفعلي للقضية، أعلم أنك خُدِعتَ بعنوان (اللحم المكشوف)، وتخيَّلتَ أنني قد أتحدثُ عن العُري في الدراما أو الشارع، أو قد يذهبُ عقلُك لاحتمالِ مناقشتي أحدَ أعمال (نادية الجندي) أو (إلهام شاهين)، للأسف لستُ من المهتمين بمتابعة الدراما العربية في مجملها، خاصةً بعد غزارة الإنتاج وتفاهةِ المحتوى ومحدودية الموهبة التي تصدمُنا على الشاشات والمنصات.
أما بعد، فاللحمُ المكشوف الذي أقصد، هو اللحمُ المُعلق عند الجزارين، الذي اعتادتْ عيناي منذُ طفولتي على رؤيتِه في شوارع مدينتي (دكرنس)، وثبتت تلك الرؤية مع انتقالي لحاضرة الفاطميين (القاهرة)، وكما قال السابقون: إن الاعتياد يقتل الملاحظة.
لم يخطر ببالي يومًا أن أتساءل؛ لماذا نُعلق اللحومَ هكذا ونتركُها عُرضةً للتلوث والعوادم، ونرفض _ وبشدة _ تناولَ اللحوم المجمدة المحفوظة بعناية في الثلاجات؛ بحجة أنها غير طازجة؟!!!
الفضلُ هنا لإثارة هذه الملاحظة، يعود إلى إحدى صديقات العائلة الأجنبيات، التي كانت في زيارةٍ لمصر، وأثناء ركوبها معي في السيارة وجدتُها تنظر باندهاش لمحلات الجزارة على جانبي الطريق وتسألني في عفوية: لماذا تُعلقون اللحوم في الهواء الملوث؟!! لماذا لا تحفظونها بالثلاجات؟!! وعندما لم أجد إجابةً على سؤالها، بدأ الفضول يقتلني أنا شخصيا وأتساءل: كيف لنا كمصريين نؤمن أن اللحم المُعلق هو الطازج، وأن اللحمَ المجمد بالثلاجات غيرُ طيب بالمرة؟!
ومن منطلق غَيرتي على بلدي وشغَفي لمعرفة الإجابة، بدأتُ البحث والتقصي عن تاريخ مِهنة الجزارة في مصر، جنبا إلى جنب مع طرُق المصريين في حفظ الطعام، وهنا كانت المفاجأة، حيث مِن قديم الأزل وقبلَ اختراع الإنسان للثلاجات التي تعمل بالثلج أو الفريون، كانت الدولُ الحارة مثلُ مصر تَستخدم طرقًا مختلفةً في حفظ الطعام منها التجليد والتشميع، حيث اكتشف المصري القديم أن تعليقَ اللحوم فى الهواء الطلق يحفظها من التلف، وكانوا يَقطعون منها – وهى معلقة – لشهورٍ عديدة ثم يأكلون. وهكذا عرفتِ الإنسانيةُ حكاية “تجليد أو تشميع” اللحوم وتجفيفها، أى تجفيف ما يزيد عن طعامهم من الذبيحة ليأكلوها بعد ذلك، وشاركتْ مصرَ في تلك الطرق للحفظ شعوبٌ مثلُ الهنود الحمر، وأهل الصين، ووسط وغرب أمريكا، وامتد ذلك إلى أمريكا الجنوبية. لكنْ أي هواء نتكلم عنه هنا؟! هل الموجود في شوارعنا المُعبأ بالعوادم والأدخنة الملوثة؟! لا أعتقد؛ فقد أكدت هيئة سلامة الغذاء في مصر ضرورةَ الامتناع عن شراء اللحوم المعلقة داخل أو خارج محلات الجزارة لأنها غيرُ سليمة وغيرُ صحية بسبب تلوث الهواء وتراكم الحشرات المرئية وغير المرئية عليها، وبالتالي لها تأثيراتٌ خطيرة على صحة الإنسان، كما أكد الدكتور (سيد حماد) استشاري التغذية _ نقلا عن أحد المواقع الإلكترونية _ أن اللحوم لا يجب أن تبقى أكثر من ساعتين في درجة الحرارة العادية، ويجب وضعها في مبردات لا تزيد حرارتها عن خمس درجات مئوية؛ للمساعدة في قتل الجراثيم والبكتيريا، وبهذا يجب عند الذهاب للجزار الاختيار من اللحوم الموجودة في الثلاجات وليست المعلقة.
أتقرؤون يا سادة: المحفوظة بالثلاجات وليست المعلقة، للحفاظ على صحة المصريين، فليس من العدل أن ندفع المئات لشراء اللحوم التى غلا سعرها، ومثلَها بل أكثر في علاج أجسادنا من آثار تلك الوجبة القريبة لقلوبنا!!
وهنا تحضرني مقولة لطيفة للدكتور (أحمد خالد توفيق) – رحمه الله – ذكر فيها أنه “لو سُمِح ببيـع اللحم البَشري عند الجزارين، لارتفعتْ قيمةُ الإنسان مرةً أخرى!! عندئذٍ سيكون سعرُك يا صديقي آلافَ الجنيهات”!!