ثقافة وابداع

المشهدية البصرية وتشظي العوالم القصصية في حجر أساس لأحمد داود

بقلم - الدكتور أيمن حماد

0:00

يشيد الكاتب الموهوب أحمد خالد داود، عالمه القصصي بامتياز، عبر مجموعته القصصية التي جاءت تحت عنوان “حجر أساس”، الصادرة عن دار الأدهم (٢٠١٩)، ويصور داود من خلالها وجع إنسان العصر في أحواله وتقلباته، في عالم شديد السرعة والالتباس والتحول الاجتماعي والقيمي، منذ زمن البراءة الأولى في الريف المصري، وحتى دخول عصر المدن الكبيرة والتقدم الصناعي والتكنولوجي، بكل معطياته التي أفرزت كائنا إنسانيًا هشًا، قلقًا، مغتربًا، ضائعًا.

وإذا كان فن القصة القصيرة، هو فن الخيال الذي يتكئ القاص من خلاله على تصوير عوالمه الواقعية المتعددة، عبر الإيجاز والرمز – كما يشير إنريكي أمبرسون إمبرت، في سفره القيم: القصة القصيرة ..النظرية والتقنية، وأن الحدث الذي يقوم به الإنسان والحيوان الذي يتم إلباسه صفات إنسانية أو الجمادات، يتألف من سلسلة من الوقائع المتشابكة في حبكة، حيث نجد التوتر والاسترخاء في إيقاعهما التدريجي من أجل الإبقاء على يقظة القارئ ثم تكون النهاية مرضية من الناحية الجمالية، فإن مجموعة “حجر أساس” ينطبق عليها ذلك، بداية من عتبة العنوان وحتى آخر قصص المجموعة.

تبدو عتبة العنوان، المأخوذة من القصة الحادية عشرة من مجموع قصص المجموعة البالغ عددها سبع عشرة قصة تشكل المتن الحكائي لها، ذات دلالة رمزية كاشفة في هذا الصدد؛ فحجر الأساس، الذي وضعه الوزير تمهيدًا لبناء مدينة الملاهي، قد بال عليه كلب “عبد الحق” حارس هذه القطعة من الأرض، في الوقت الذي يعاني فيه هذا الحارس شظف العيش والفقر المدقع، والذي طلب “سُلفة” من المشرف على هذا المشروع، مشروع الملاهي، لمساعدة ابنته في علاج ابنها المريض، ناقص النمو، حيث يحتاج إلى مشفى أو “حضّانة”. نجد أن كل ذلك يقابل بالمراوغة وعدم الاستجابة.

تريد القصة أن تقول إن حجر الأساس هو الإنسان، قبل كل شيء، البشر قبل الحجر. وما بولة الكلب على هذا الحجر سوى احتقار لكل شيء يأتي على حساب مكانة الإنسان وكرامته، وعلى هذا يمكن تأويل العنوان مكتملًا هكذا: “الإنسان حجر أساس”، ذلك العنوان الذي وفق الكاتب في اختياره لهذه المجموعة، إلى حد كبير. وتأتي شخصية “عبدالحق” كدلالة على الإنسان المنسحق في المجتمع، المغترب في بلده كما اغترب خارجه في أثناء سفرته لإحدى الدول العربية لكسب العيش، فالاغتراب ملازم له، ولم يجد إلا كلبه ليحدثه ويبثه همومه وشجنه، عبر المونولوج والحوار، فلا أنيس وصديق له إلا ذلك الكلب الوفي، أما البشر فهم مصدر خوفه واغترابه وانسحاقه في عالم لا يرحم.
يهيمن الفضاء الريفي على قصص المجموعة، وإن كان للمدينة حضورها، لكنه ليس بحجم فضاء الريف، ففي القصة الأولى “طموح اللارنج”، التي يتم السرد فيها بضمير العائب، تبدو المشهدية البصرية جلية، من خلال حركة الشخوص، وخاصة الشخصية الرئيسية التي يصورها الكاتب؛ فيحكي السارد هنا عن ذلك الفتى الريفي الغض، الذي يعد نموذجًا إنسانيًا ينسحب على أمثاله من أبناء القرى الريفية في مصر، ممن يعيشون حياة بسيطة هادئة، حيث الكتاتيب التي يذهبون إليها في بداية التعلم، وهنا لا نرى أسماء بعينها، ما يدل على ما ذهبنا إليه، وهو أن هذه النماذج، سواء الفتى أو الفتاة، أو شيخ الكتّب، نماذج إنسانية واقعية تنسحب على كل القرى تقريبًا، في تلك الفترات التي يحرص أهل الريف فيها على تعليم أبنائهم في الكتاتيب. ونرى أيضًا صورة النسوة اللائي يغسلن “المواعين” والقمح بعد حصاده في مياه الترع، والوصف المقتضب، وإن كان دالًا وشيقًا وعميًا للبيوت الطينية والطرق المتربة والمقابر وأشجار التوت التي يتقافز بين أغصانها الصبية والأطفال الصعار، وذلك من خلال لغة سردية مليئة بالصور والرموز، وهي لغة فصيحة، لكن الحوار جاء بالعامية وخاصة بين والدة الفتى الذي يتعثر في حفظ القرآن والشيخ.

لعل السؤال الفلسفي الذي يمكن أن تطرحه المجموعة – عامة – على المرء، يتمثل في: ما جدوى الحياة الإنسانية إذا لم تكن حرًا، سعيدًا، طليقًا، آمنًا؟
وتأتي الإجابة عن هذا السؤال الوجودي من خلال قصة “بدلة ظابط”، التي تصور من خلال سارد كلي العلم شخصية ذلك الضابط أو رجل الأمن، القلق، المطارد بمصير بائس، كزميله المصاب في حادث اعتداء على كمين للشرطة، ولعل الذبابة التي تطارده في غرفته في أثناء نومه، والتي أخذ يطاردها بمسدسه ليطلق عليها الرصاص، أن تكون رمزًا لذلك القلق والاغتراب عن الحياة الطبيعية التي يجب أن يعيشها، كما ترمز “البدلة” إلى ذلك المصير الذي ينتظره وهو الموت، كلما نظر إليها، مقارنًا بين صورته المعلقة على الحائط ، وهو طفل يلبس البدلة نفسها ولكن لطفل بصحبة والده رجل الأمن أيضًا، حيث ” أحس بفراغ كبير وهو يرفع نظره إلى أعلى، متأملًا البدلة المصلوبة في الهواء. تأملها طويلًا وطوفان الأسئلة يعمر رأسه: هل ستصبح سببًا لموتي؟ أم كانت بلونها كفنًا متحركًا لذاتي؟”(ص ١٣)

إننا-هنا- إزاء شخصية مغتربة عن ذاتها وواقعها، تحولت حياتها إلى ما يشبه الآلة التي يتم التحكم بها وتحريكها من لدن الآخرين، وهنا دلالة على الشعور بالعجز powerlessness فـ” الذكريات تخطر له على استحياء. إنها المرة الأولى التي يختلي فيها بنفسه، وينظر وجهًا إلى وجه أبيه في حياته. متأملًا لقطات سريعة من شريط أيامه تتجسد بقوة أمام عينيه، ونبرة صوت أبيه الحاسمة، يسمع صداها في الغرفة. كما تتجرد امرأة من ملابسها، قطعة قطعة، بدأت تتكشف له حقيقة حياته: عارية وصادمة. أحس أن حياته لم تكن ملكًا له يومًا ما. كانت تشبه حياة “الربوت” الذي يدور بالشحن الكهربائي” (ص١٣)

في هذه القصة تتجلى المشهدية البصرية، من خلال المطاردة لتلك الذبابة التي تقف على وجهه. ويدل وصف محتويات العرفة وأشيائها، من الطاولة الخشبية وما عليها من زجاجات فارعة، والستارة المضمومة بعنف على أحد جانبي العرفة، والقضبان الحديدية التي تملأ فراغ النافذة، وصورة أبيه بإطارها الخشبي مرتديًا “البدلة” ذاتها، كل ذلك دلالة على اغترابه المكاني، حيث أضحى المكان كئيبًا، خانقًا يبعث الأسى والضيق والعجز في نفس البطل، كما يبدو الاغتراب الزماني ملمحًا بارزًا في هذه القصة أيضًا؛ فالأيام تكرر نفسها بكآبتها وثقلها، وأجواء الظهيرة حارة وخانقة، والثواني والساعات لا تمر وكأن الزمن توقف عن الجريان ” إنها الظهيرة، الجو حار وخانق، ومروحة السقف تتحرك أبطأ من عقرب الثواني في ساعة الحائط المثبتة فوق النافذة. ابتلع ريقه بصعوبة، أوقف ذهنه عن الشرود قليلًا، ليحصي الأيام التي لم يرتدها (البدلة) فيها- منذ صدور الأوامر غير المعلنة، بعدم ارتداء الزي الرسمي- فوجدها تمامًا كالأمس لم تزد إلا يومًا واحدًا وساعات معدودة” (ص١٢)

ويأتي حلم اليقظة ليكون مهربًا له من عالمه القاسي، فـ”داعب خياله حلم يقظة طازج. أحس أنه السبيل الوحيد للنوم: سيصبح إنسانًا آخر، قائدًا أيضًا، بعير زي رسمي، يجوب بحارًا ومحيطات في زمن بدائي التكوين، تطأ قدماه جزرًا عذراء، ويملك عبيدًا من كل البلدان” (ص١٣). هنا يأتي الحلم سبيلًا لتحقيق الآمال المستحيلة، والحرية، والخروج من قيود الواقع المرير.
وفي قصة “ليلة لم يصح فيها ديك”، التي يتم السرد فيها بضمير المتكلم، نجد الكاتب قد ترك حرية الحكي لذلك البطل المغترب عند ذاته ومجتمعه، ليبوح بما يشعر تجاه كل من حوله وما حوله، والمطارد بالكوابيس والأحلام المزعجة. إنه ذلك الشخص غير المسمى، وفي ذلك دلالة على ضآلته وانعدام الشعور بإنسانيته، وضياعه وسط هذا الحشد من البشر وكذلك الأشياء. إنه اغتراب وجودي، والشعور بعبثية الحياة ولا جدواها، وهو ما تجلى في قوله: “قدماي تحت العطاء تتلامسان في ود. لست أدري ما الجدوى منهما، حين تُفقد الأمكنة ويتعذر المسير”(ص٢٣) ، وقوله: “زحف الحزن إلى صدري وداهمني شعور عميق أني سرقت”(ص٢٥ . إنه ذلك البطل اللامنتمي، بتعبير كولن ولسون في كتابه البديع “اللامنتمي”، هو بطل اللابطولة، المنسحق في مجتمع الزيف والرذيلة، وهو أيضًا “اللامسمى” بتعبير أندريه جيد. هو بطل يعيش في جحيم الحياة وآتون اغترابها المقيم، كبطل هنري باربوس في رواية “الجحيم”.

وإذا كانت الشخصية بهذه الأوصاف، مغتربة عن الذات والآخرين من البشر، فإنها مغتربة مكانيًا وزمانيًا أيضًا، ويعبر السارد عن اغترابه الزماني والمكاني، بوصفهما المؤطرين لوجوده في هذا العالم الزائف، حيث الزمان يمر بطيئًا، ثقيلًا، لا فرق بين ليل ونهار، بقوله:
“فتحت عيني كواحد من أهل الكهف. الزمن يترنح بداخلي. ولا أدري أكان نومي يومًا، أم بعض يوم” (ص٢٣). وهنا نجده يشبه نفسه بأهل الكهف، بالانتماء إلى زمنهم وليس زماننا، عبر التناص مع النص القرآني. وقوله: “مصباح يضيء العرفة الصامتة، يبدو أني تركته مضاء. الراديو يرفض أن يصدر صوتًا. ألطمه بعنف. غير أنه يواصل الإصرار على الصمت. هل الوقت ليل، أم نهار؟ الساعة المعلقة في الجدار بمسمار رأسه مقطوع، لا تستطيع أن تخبرني، لا سيما أن عقاربها أصابها الشلل الرعاش” (ص٢٣).

ولقد أضحت المدينة مكانًا موحشًا، جحيمًا لا يطاق، يغلفه الزيف والرذيلة، اللذان يعيشان في كنف القوة ورأس المال، المتجلي في اللافتات الانتخابية التي احتلت الميادين والشوارع والأرصفة وواجهات العمارات وأسطحها ومحال البيع، بشعارات جوفاء. يقول بطل القصة: “المدينة موحشة. برها لاسع. الميدان يموج بناس يتصايحون، ويركضون دون هدف. يلف وجوههم شحوب الموتى، وفي أعينهم حزن مقطر. هاجمتني الروائح الكريهة، ونداءات سائقي سيارات الأجرة، وذرات العبار، ونباح الكلاب الضالة. يبدو أنه الليل، فأعمدة النور العمومية عيونها ساهرة، واللافتات الإعلانية العملاقة مضاءة، وتهتز بشدة فوق أسطح المباني الضخمة المحيطة بالميدان الفسيح” (ص ٢٤).

وتبدو المشهدية البصرية بصورة لافتة في قصتي “الضيف الثقيل”، و”عزبة القرد”، ففي الأولى نجد الفأر الذي أزعج الزوجة فهبت مسرعة لتوقظ الزوج من النوم ليخلصها من ذلك الفأر، هو محرك الحدث الرئيس، والحافز للحوار بين الزوجين، وعودة الود والعلاقة الحميمة بعد توترها، إثر تلك الخلافات الزوجية المعروفة، أما قصة “عزبة القرد فتنتمي كسابقتها إلى القصة الدرامية، حيث يغلب عليها الحوار بين الشخوص، وتدور أجواؤها في إحدى قرى الريف المصري، وهي قصة ذات دلالة رمزية بليغة، ومناط الحدث فيها حول ذلك القرد، الذي نسبت إليه كل الجرائم، من سرقات وقتل للطيور المنزلية، وتدمير المحاصيل الزراعية وغيرها، ومن ثم استقر المطاف في النهاية بين العمدة وأهل البلدة على ضرورة التخلص من هذا القرد، فأبلغ العمدة شيخ الخفر بقوله:” بلّغ رجالتك، اللي حيطخ القرد منهم، ويجيب لي جثته، له عندي بقرة عُشر، وعلى وش ولادة كمان(ص٦٤). ولكن حينما يبلغ الخفير العمدة بأنهم وجدوا القرد جثة هامدة في “الجنينة البحرية”، رد العمدة مخاطبا شيخ الخفر: “اكفي على الخبر ماجور. مش لازم حد يعرف بموت القرد”(ص٦٨).

وهنا يتضح من كان يرتكب تلك الجرائم، ومن يوظف السلطة في النيل من الناس، وما القرد هنا إلا أداة من أدوات السلطة.

ويستلهم الكاتب معطيات التراث الشعبي في قصة “خيال المآتة الضاحك”، وهو ما يتجلى في شخصية بهنسي الأشبه بشخصية المجذوب التي تزخر بها الحكايات والسير الشعبية العربية.

إن التصور الشعبي يرى في مثل شخصية “بهنسي” صانع دمى خيال المآتة، التي تطرد الطير الذي يأكل محصول القمح وغيره من المحاصيل، شخصًا مجذوبًا، لا خوف منه، مثله في ذلك مثل خيال المآتة، وقد ورد ذلك في قول صبيحة، التي صنع بهنسي دمية خيال مآتة لحقلها: “هل هو حقًا رجل؟ إنه مجرد خيال مآتة مالوش عازه. وكمان ده “أبوريالة”، ولا خوف منه. إنه يدخل كل البيوت، والنساء جميعهن لا يخشينه. والرجال لا يعتّدون به في جلساتهم”(ص٤٩).

كما يظهر تأثير التراث الشعبي في استلهام الأغنية الشعبية، تلك التي جاءت على لسان بهنسي، ولا يخفى أثر الأغاني الشعبية ودلالتها على جمهور المتلقين؛ فهي المعبرة عن آلام وآمال شريحة بعينها من الناس، وتنطوي كلماتها على حكم ونصائح وعبر، تُخاطب وجدان الناس، إن حزنً أو فرحًا. وقد أشار الكاتب في الهامش إلى مصدر هذه الأغنية وغيرها من الأغاني؛ فهناك أغنية للمطربة الشعبية رضا شيحة، والمطرب الشعبي السيد درويش الطنطاوي، الذي تقول إحدى أغانيه، كما وردت في القصة:
داري جمال العين داري
خلي اللي فيهم مداري
ألا العيون سهمها لو صاب
ما يفيدني كاتب ولا قاري

وهنا يلعب تضمين مثل هذه الأغاني والأمثال والحكم الشعبية، وغيرها من عناصر التراث والأدب الشعبي دورًا كبيرًا في الكشف عن عوالم البيئة الشعبية والريفية ودخائل شخوصها ووجدانهم، وهذا إلى جانب عناصر البناء الفني القصصي الأخرى، التي أشرنا إليها، ما يحسب للقاص المبدع أحمد خالد داود، الذي يعمل هو ورصفاؤه من أبناء جيله على استكمال تجذير فن القصة القصيرة في تربة الإبداع المصري امتدادًا لجيل الرواد المؤسسين والعمالقة في هذا الحقل.


زر الذهاب إلى الأعلى