مقالات الرأى

حازم البهواشي يكتب: سوق الحلاوة جَبَر

0:00

حين أدَّى الفنان عبد المنعم مدبولي (1921م : 2006م) كلمات (مرسي جميل عزيز) في أغنية (زمان وكان يا ما كان، كان الزمان إنسان) في فيلم (مولد يا دنيا) أواخرَ عام 1975م، كان يُشير إلى حالةٍ عامة نشعرُ بها دومًا وهي الحسرة على أيام زمان، والإشارة إلى أفضليتها بالقياس إلى الحاضر، وهذه حالُ كل الأجيال، يأسِرها الماضي وتشعرُ بالحنين إليه، وتغرَق في ذكرياتِه، وتتذكرُ بركاتِه.

وبما أن الأمرَ دائم مع كل الأجيال، فهو يعني أننا نبحث عن البساطة وعدم التكلف، نبحث عن راحة البال، والصحبة الطيبة، عن الصحة والدفء والقدرة على الحركة دون حسابات أو مسؤوليات عن أحد، عن الحقيقة والبراءة وعدم الزيف، فالخير والأصالة والحُب والحضارة، والإبداع والإنجاز كلها ماضٍ، أما الآن فـ (سوق الحلاوة جَبَر، واتبغدِدُوا الوِحْشِين) على حدِّ قول الأغنية التي راجت في ثلاثينيات القرن الماضي!!!

لم يكن الماضي جَنّة، ولم يكن ناصعَ البياض، غيرَ أن سُرعةَ التواصل في عصرنا الحاضر، أظهرتِ المسالبَ والمعايبَ بصورةٍ أقوى، بل وسلّطتِ الضوءَ عليها، فالفضيحةُ بفعل التكنولوچيا أصبحت أوسعَ وأسهلَ وأسرعَ وأكثرَ انتشارًا، ليتوارَى السَّترُ جانبًا ويَقعُدَ مَلُومًا محسورًا!! فهل العيبُ في الزمان أم في التكنولوچيا أم في قلةِ وعي الإنسان؟!
يَحِنُّ المُستمعُ إلى الأصوات العذبة والكلماتِ الرصينة وسْط رُكامٍ من الأصوات الآسِنة، والكلماتِ المَهِينَة، يَحِنُّ إلى الحوارتِ الجادة الهادفة وسْط جبال (التريندات) التي يأتي معظمُها من التفاهات، وتُكالُ الاتهاماتُ حينئذٍ للأذواق، فهل العيبُ في الزمان أم في التكنولوچيا أم في قلة وعي الإنسان؟!

في الأوطان التي ضاعت بفعل فاعل، يَحِنُّ المُواطن إلى الماضي وإن كان حاكمُه (ديكتاتورًا) أو فاسدًا؛ فقد كان أكثرَ أمنًا وأمانًا، وكان الخيرُ وفيرًا، كان الوطنُ طاهرًا قبل أن تُدَنِّسَه أقدامُ الاحتلال، أبِـيًّـا قبل أن تُذِلَّهُ العِمالةُ والخيانة، شامخًا قبل أن يُصبحَ مُستباحًا، كان خُبْزُ الوطنِ أبيض قبل أن تغمُرَهْ سيولُ الدم!!

لماذا نبحثُ عن الزمن المفقود بدلًا من أن نُعبِّدَ طريقَ الحاضر لنصل إلى المستقبل؟! هل لأن الكلام أسهل، والفِعلَ أصعب؟! لماذا نُفتش في ذاكرتنا بدلًا من أن نرسم أحلامَنا؟! هل لأننا فقَدْنا القُدرةَ على الحُلم، أم أننا نحلُمُ دون قُدرةٍ على العمل، نحلُم بالمُخَلِّص والمُنقذ الذي سيأتينا عبر قوةٍ عُلوية دون أدنى جُهد أو حتى تفكير؟!
ليس بالأمانيّ فقط ولا بأحلام اليقظة يعود (سوق الحلاوة)، بل بالوعي بتأثير كل فِعل، الوعي بتأثير الكلمة، الوعي بما حدث، لنعرِفَ ما سيكون بما قد كان، الوعي بضرورة أن نمتلك آلياتِ صُنع المستقبل. (والأمانةُ تقضِي بأن نصطفيَ للأعمال أحسنَ الناسِ قيامًا بها، فإذا مِلْنَا عنه إلى غيره _ لهوى أو رشوة أو قرابة _ فقد ارتكبنا _ بتنحيةِ القادر وتوليةِ العاجز _ خيانةً فادحة).

زر الذهاب إلى الأعلى