حازم البهواشي يكتب: المُحسِنُ العظيم … لماذا سُجِن؟!
في مقالي السابق الذي كتبتُ فيه عن (أحمد المنشاوي باشا) والذي وصفتُه فيه بأنه من رجال الأعمال لا الأقوال، طرحتُ أسئلةً ثلاثة: لماذا سُجِن؟! وما حكايةُ إجارتِه النصارى؟ وما مُلابسَاتُ تكريمِه في إيطاليا؟
أُذَكِّرُ بأن (المنشاوي) باشا من أعيان الغربية، وهو واحدٌ من أغنياء مصر المعدودين الذين اشتُهروا بكثرة الإنفاق في أعمال الخير، وقد وُلد في فترة حكم (محمد علي)، قيل عامَ 1834م وقيل عام 1840م، وتوفي في 20 ديسمبر عام 1904م.
سببُ سِجن المُحسن العظيم _ كما أُطلِق عليه _ أن لصوصًا سَرَقوا مواشيَ من مزرعةٍ يملكها الخديو عباس حلمي الثاني، فتطوع (المنشاوي) باشا بالبحث عن اللصوص والقبض عليهم، وقد تم إرسالُهم إلى مأمور القسم، وهناك حاولوا أن يُنكروا السرقة، وقالوا إن الاعتراف تمَّ تحت التعذيب!! وهو ما جعل الحكمدار الإنجليزي ينتهز هذه الفرصة لمعاقبة (المنشاوي) باشا على تأييده لثورة عرابي، وقرر اللورد (كرومر) مُعاقبتَه وعمِلَ على مُحاكمتِه وإدخالِه السِّجن انتقامًا منه!! وقد كان (المنشاوي) سجينًا حين شبَّ حريقُ ميت غمر عام 1902م وكتبَ شاعرُ النيل (حافظ إبراهيم) يُناشده التبرعَ لضحايا الحريق:
أيُّهذا السَّجِينُ لا يَمْنَعُ السِّجْـ / نُ كَرِيمًا مِن أنْ يُقِيل العِثارا
مُرْ بِأَلْفٍ لهُمْ وإنْ شِئْتَ زِدْهَا / وأَجِرْهُمْ كَمَا أَجَرْتَ النَّصَارى!!
فما قصةُ إجارتِه النصارى؟!
حينما قامت الثورةُ العرابية، أوعزت إنجلترا إلى محافظ الإسكندرية (عمر باشا لطفي) أنْ يَقومَ بتأجير بعض العربان والرحالة البدو ليقوموا بقتل اليهود والمسيحيين الأجانب، فدبَّروا هذه المجزرة التي شهِدَتْها طنطا، لتقومَ إنجلترا بالتدخل وإخماد ثورة عرابي!! حينئذٍ كان للمنشاوي باشا دورٌ بطولي، حيث قام بإيوائهم، وعلاجهم، ودفنِ موتاهم، وترحيلِ مَن بَقِيَ منهم إلى بلادِهم على نفقته!!
هاجر (المنشاوي) باشا من مصر إلى الشام عقب الثورة العرابية، ثم سافر إلى إيطاليا واستقر هناك بمدينة نابولي، وحين كان يجلس في أحد المحال، تعرَّفَ عليه أحدُ الطَّلْيَان، فسلَّمَ عليه ورحَّبَ به، وتحدثَ معه عن المذبحة، ثم سأله عن محلِّ إقامته فذكَرَهُ له.
توجَّهَ الرجل من فوره إلى الجمعيات الخيرية وقال لرؤسائها: كيف يوجد بين ظهرانينا ذلك الرجل الذي حمى المسيحيين يوم مذبحة طنطا، وتلطختْ ثيابُه بدماءِ مَن قُتِل منهم، وكان يَحملهم في الشوارع، وآوى الكثيرَ منهم في سراياه بـ (القُرَشِيَّة)، وسَفَّرَهم إلى بلادِهم على نفقتِه، ولا تعلموا بوجودِه هنا ولا تحتفِلوا به؟!
قرر أعضاءُ الجمعيات الأهلية عَمَلَ مظاهرةٍ في حُبِّ (المنشاوي) وتقديرِه، وفوجئ (المنشاوي) باشا بالمئات أمام منزله، فنزل ورحّبَ بهم ودَعَوْهُ إلى احتفالية، وكان يومًا مشهودًا، اجتمعَ فيه عِلْيَةُ الناس، وامتلأتِ الشوارعُ بالمتفرجين، والموكِبُ يسير و(المنشاوي) في المقدمة، حتى وصلوا إلى مكان الاحتفال، وأُلقيت الخُطب في مدح (المنشاوي)، وذِكْرِ مآثِرِه على المسيحيين والأوروبيين، وبَيْنَ كُلُّ خُطبةٍ وأخرى يُقلَّدُ نيشانًا فاخرًا، وهو يَذرِفُ الدموعَ ويقول: (إن هذا الاحتفالَ هو لأجْلِ عَمَلٍ عَمِلْتُهُ في مِصر، عدَّته حكومةُ بلادي من ذنوبي!!
(أحمد المنشاوي باشا): سلامٌ عليكَ في عِلِّيين؛ فقد أتعبتَ الأغنياءَ مِن بعدِك!!