ناصر عراق يكتب : أبناء الكبار… صغار!
سألتني أمس صديقة مصرية عزيزة تقيم في دبي: (هل تعرف المثل العربي… “ولاد الكبار صغار؟”)، فتذكرت أول مرة سمعت فيها هذا المثل من صديق إماراتي قبل عشرين سنة، فحسب علمي، لا يتردد هذا المثل في مصر، ولا تتناقله الأفواه في بلادنا، على الرغم من أننا ابتكرنا آلاف الأمثلة على مدار قرون طويلة.
أذكر جيدًا أن الظروف أتاحت لي زيارة فيلا مثقف إماراتي كبير بحق تربطني به علاقة مودة عميقة، فاطلعت على مكتبته العامرة بذخائر ومراجع وكتب بالغة التنوع، شديدة الأهمية، فبهرتني تلك المكتبة، وسألته: (هل هناك أحد من أولادك منشغل بالثقافة والقراءة والإبداع؟)، فابتسم، ونفى أن أيًا من أبنائه الأربعة مهتم بالقراءة، فعدت أسأله: (هل يحزنك هذا الأمر؟)، فضحك بصوت عال وأجاب: (وهل تعرف من هو ابن الجاحظ؟).
وأذكر أيضًا الغضب الشديد الذي اعترى الإعلامي الكبير الراحل حمدي قنديل حين التقى مع ابن واحد من الكبار. بدأت الحكاية هكذا: كنا معتادين: الأستاذ حمدي قنديل وأنا وبرفقتنا الصديقان العزيزان عماد الدين حسين وعادل السنهوري على اللقاء كل شهر تقريبًا في أحد مطاعم دبي لتناول العشاء والتحدث عن مصر وأحوالها ومستقبلها، وذلك قبل سقوط نظام مبارك. كان الأستاذ حمدي في ذلك الوقت من عام 2003 حتى 2008 يقدم برنامجًا مهمًا في تليفزيون دبي تحت عنوان (قلم رصاص). وفي أحد الأيام تلقيت اتصالا من الأستاذ حمدي في غير الموعد المعتاد للقاء الشهري طالبًا مني أن نلتقي جميعًا الليلة، ففوجئت وتساءل خاطري: ماذا جرى؟.
المهم التقينا، وبدأ الأستاذ حمدي يحكي لنا بأسى كيف تناول عشاءه أمس مع مسؤول إماراتي كبير وبصحبته ابن قيادة سياسية مصرية تاريخية عظيمة، وكيف أنه فوجئ بأن هذا الابن رمز للتفاهة، وأضاف الأستاذ حمدي بغضب عارم: (غلى الدم في رأسي… كيف يكون هذا التافه ابنا للرجل النبيل العظيم؟).
آنذاك، تذكرت المثل إياه وعكفت على تأمل المعنى الكامن في ذاك المثل، ومضيت أستعرض ما أعرفه من سيرة الكبار في الفكر والأدب والفن والسياسة، سواء من قرأت عنهم أو من التقيت بهم واقتربت من حياتهم الشخصية، واكتشف كم يصدق هذا المثل/ الحكمة على الكثير من الكبار.
هكذا إذن يمكن لنا تفسير لماذا لم تحاول أي بنت من بنات الأديب الكبير قراءة أي كتاب له رغم الجوائز المرموقة التي نالها بجدارة، كما يمكن أن نفهم انصراف سيدة أخرى فاضلة عن الانشغال بالموسيقى والطرب رغم أن أباها كان واحدًا من نوابغ هذا الفن، وقد جلست مع هذه السيدة بنفسي، وفوجئت بعدم اهتمامها شبه المطلق بهذه الفنون. وأذكر أنني التقيت رسام الكاريكاتير الشهير، والموهوب جدًا، وسألته عن أبنائه ومدى علاقتهم بالرسم، فابتسم وقال لي بأداء من استسلم للمقادير: (عملت المستحيل مع ابني الوحيد ليتعلم فنون الرسم، لكنه أبى وابتعد).
وأذكر أيضًا أن زارني في مكتبي عندما كنت أدير تحرير مجلة (دبي الثقافية) ابن شاعر عربي كبير يتمتع بشهرة عظيمة، وقد هالني كم هو محدود المعارف بصورة محزنة.
لا يغيب عن فطنة القارئ أن المثل لا يعني أن أبناء الكبار لا يتمتعون بالموهوبة نفسها التي برع فيها آباؤهم فحسب، بل ربما هم محرومون أيضًا من أي موهبة لافتة في أي مجال، وهذا أمر مؤسف بطيبعة الحال.
أما عباس محمود العقاد، فقدم تفسيرًا لهذا الأمر عندما قال إن الطبيعة أو القدر ليس سخيًا ليضع الموهبة المتفجرة في أسرة واحدة: الأب والأبناء، وهكذا يكتفي القدر بإهداء الموهبة الكبيرة إلى شخص واحد فقط من هذه الأسرة.
وأما صديقتي العزيزة المقيمة في دبي، فأبدت انزعاجها الشديد أمس لأنها التقت ابنة فنانة مشهورة أنيقة جميلة حافظت على رونقها في طور الشباب كما في طور الشيخوخة، لكن ابنتها خاصمت الأناقة وارتدت ثيابًا فوضوية غير لائقة، وهنا سألتني صديقتي عن مدى معرفتي بالمثل (ولاد الكبار… صغار)، فقلت لها: أعرفه جيدًا، ولعله يخفف من حجم الانزعاج الذي ينتاب المرء إذا قادته الطروف للتعامل مع أبناء الكبار!.