مقالات الرأى

ياسين غلاب يكتب: الحرب العالمية الاقتصادية الأولى

0:00

منذ أن ظهر السلاح النووي بانتهاء الحرب العالمية الثانية تحول الصراع الكبير بين القوى الكبرى إلى حروب صغيرة في إطار الحرب الباردة التي استخدمت فيها جميع أنواع الأسلحة ما عدا الأسلحة العسكرية. كان ميدان التنافس بين القطبين المسرح العالمي برمته؛ وخاصة تلك الدول التي لم تقع في حوزة أي من الطرفين حيث استخدم السلاح فقط فيما عرف بحروب الوكالة والحروب تحت غطاء الأمم المتحدة.

الآن بظهور الصين واقتصادات آسيوية أخرى؛ تبدلت أنماط الصراع من العسكري إلى الاقتصادي. أخيرًا اعترف المستشار الألماني شولتس بهذه الحقيقة عندما قال إن السنوات الثلاثين الماضية من التضخم المنخفض والنمو الاقتصادي المستقر والوفرة الكبيرة في فرص العمل والوظائف في أوروبا كانت ظاهرة استثنائية وأن الحرب الروسية الأوكرانية والنتائج الاقتصادية لوباء كورونا عجلت بإنهاء هذه الظاهرة لكنها ليست السبب الجذري، السبب الحقيقي هو نمو الاقتصادات الآسيوية التي تنافس أوروبا في الطاقة والمواد الخام والتكنولوجيا.

باستقراء الخريطة العالمية نجد أن العالم كله منخرط في هذا الصراع أو اكتشف أنه منخرط فيه. الغرب بدأ هذه الحرب مبكرًا. أدركت الولايات المتحدة المتربعة على عرش الأحادية القطبية مواطن الخلل في هيمنتها الاقتصادية وأن الصراع المقبل سيكون محوره عامل الطاقة فسعت إلى الهيمنة على مصادرها منذ خمسينيات القرن الماضي فكان ذلك العامل هو ركيزة هيمنتها الاقتصادية.

كذلك أدرك الأوربيون الذين استفادوا من رخص أسعار الطاقة أن اعتمادهم على الطاقة الروسية الرخيصة سيشكل لهم مشكلة كبيرة في قادم الآيام فانخرطوا في اتجاهين: الأول هو إيجاد مصادر بديلة للطاقة تحررهم من الاعتماد على الطاقة الروسية وتسهم في استمرار هيمنتهم الاقتصادية في المستقبل البعيد والثاني هو التعاون مع واشنطن في تأمين مصادر الطاقة الأحفورية لبقاء النظام العالمي المكرس للهيمنة الغربية ولا مانع إذا أدى ذلك تفكيك روسيا والسيطرة على مواردها الاقتصادية بالإضافة إلى مواردها من الطاقة.

في غضون ذلك كان الشرق الآسيوي يتقدم بخطى ثابتة ويستهلك كميات ضخمة من الطاقة وكميات أكثر من المواد الخام. في نفس الثلاثين عامًا التي تحدث عنها شولتس، كان الغرب يرمي بصناعاته إلى الشرق حيث العمالة الرخيصة معتقدًا أن هيمنته مستمرة بالتفوق العسكري والتكنولوجي؛ حتى اكتشف أن هاتين الميزتين لم يعد يملك فيهما التفوق فقد عاد الروس إلى التفوق العسكري في الصواريخ التي بلغت سرعتها 9 أضعاف سرعة الصوت والعديد من التقنيات الأخرى وتفوق الصين في مجالات التكنولوجيا الأخرى وصاروا يتحدون التفوق الغربي في هذا المجال.

الآن يمتلك الشرق تفوقا عسكريا وتكنولوجيا يتوازى مع الغرب؛ وأصبحت الصين والهند وغيرها من الاقتصادات الآسيوية مصنع العالم إضافة إلى تركز المواد الخام المهمة في يد روسيا مثل النيكل الذي يستخدم في الصلب وإنتاج الصواريخ ومثل الليثيوم الذي يستخدم في البطاريات وغاز النيون ومعدن البلاديوم وهما أساس أشباه الموصلات..إلخ. حتى الزراعة وإنتاج الحبوب استطاعت كل من الصين وروسيا أن تحقق فيهما اختراقا أخرج الغرب عن الهيمنة فيهما.  

شولتس لم يحمل وباء كورونا والحرب الروسية الأوكرانية وزر بدء الحرب الاقتصادية العالمية الأولى وإن قال إنها عجلت بها. الحقيقة هي إن الغرب كان يعمل بكل قوته على إشعالها وهو من مركز قوة؛ حتى قبل أن يعلن أوباما الانسحاب من الشرق الأوسط وتركيز قوة الناتو لمواجهة الصين. ربما كان للوباء النصيب الأكبر في كشف ثغرات الغرب وضعفه، لكن الحرب الروسية الأوكرانية كانت لمنع استئثار الغرب باستمرار هيمنته الاقتصادية على المستقبل بسحب ورقة الطاقة من موسكو وإبعادها تماما عن المشاركة في تقسيم العمل الدولي إن لم يكن بالإمكان تفكيكها والاستفراد بمواردها الخام.

ظن الغرب أنه قادر على لجم روسيا وكبح جماح تقدم الصين وفرض هيمنته على القرن القادم لكن ما يجري الآن ينبئ عن احتدام الصراع إلى حدود غير مسبوقة. في ظني وتقديري أن المنطقة العربية والإفريقية التي هي خزينة العالم من الموارد والمعادن وتمثل نقطة ضعف كبيرة للغرب ستكون رمانة الميزان إذا استطاعت أن توازن بين الشرق والغرب وتوجه هذا الصراع لمصلحتها ولا ترتمي في أحضان هذا أو ذاك.

زر الذهاب إلى الأعلى