ناصر عراق يكتب : من القاهرة العريقة إلى دبي الساحرة
سيظل يوم 23 يناير 1999 يومًا فارقا في حياتي، حيث غادرت في مساء ذلك اليوم القاهرة متوجهًا إلى دبي لأول مرة حاملا معي عقد العمل الذي أرسلوه لي بالبريد العادي القديم كي أشارك في تأسيس دار الصدى للصحافة، وأتولى رئاسة القسم الثقافي في مجلة “الصدى” التي تنوي الدار إصدارها بشكل أسبوعي.
نعم… غادرت القاهرة التي عملت فيها محررًا ثقافيًا ورسامًا في العديد من الصحف طوال أكثر من 15 عامًا. غادرت القاهرة التي فيها ولدت وكبرت، فتعلمت وفرحت وحزنت وحلمت وخسرت وربحت، لكنها لم تغادر جلدي، ولم تخرج من شراييني، فظلت عاصمة المعز تغرد في قلبي وترقص على أبواب أوردتي، ثم تنهب من الوقت والبال الكثير والكثير بسحرها وضوضائها وفتنتها وضجيجها وحلاوتها وفوضاها، بنيلها وتاريخها وحدائقها وشوارعها وحواريها، بمفكريها ومثقفيها ونجومها ومبدعيها، بناسها الطيبين البسطاء.
أقول…لم تخرج القاهرة من دمي، ولم أخرج منها طوال 24 عامًا عشتها في دبي، وما أزال.
أما دبي، فقد استحوذت على الجهة الأخرى من القلب. هذه المدينة الفتية الباذخة بعمائرها المدهشة، ذات الشوارع العريضة والنظيفة والحدائق الشاسعة، علاوة على النظام المروري الصارم والمتميز. لم يكن بد من الوقوع في هوى دبي لأن حيويتها المتألقة تسحر الأعين وتخطف الألباب.
حين هبطت أرض دبي للمرة الأولى تلقيت تكليفا واضحًا محددًا من قبل رئيس تحرير مجلة “الصدى” الأستاذ سيف المري بضرورة إصدار العدد الأول من “الصدى” في أقرب وقت ممكن. وهكذا ظل فريق التحرير يعمل ويصوغ ويبتكر ويكافح ويطور، فأخرجنا عددين تجريبيين في مارس من ذلك العام، حتى رضينا عن عملنا، فأصدرنا العدد الأول من “الصدى” يوم الأحد 4 أبريل 1999.
كانت فرحتي باتساع البحر، أما سعادتي فلا يمكن وصفها، فأخيرًا صار لدينا ملف ثقافي أسبوعي داخل “الصدى” يهتم بشؤون الأدب والفن والفكر مكون من 32 صفحة ملونة ذات طباعة فاخرة وورق مصقول وإخراج صحفي فريد يصممه بذكاء كل عدد الأستاذ أيمن رمسيس.
“المبدعون” هو اسم هذا الملف الثقافي الذي عكفنا على إصداره بانتظام كل أسبوع لمدة ستة أعوام ونصف العام تقريبًا، إذ صدر العدد الأول في 4 أبريل 1999، كما ذكرت قبل قليل، بينما آخر مرة يرى فيها “المبدعون” النور كان مع صدور العدد 339 في 30 أكتوبر 2005.
بكل تواضع شرفتُ برئاسة القسم الثقافي، أي بالمسؤلية الأولى عن تحرير ملف “المبدعون” طوال كل هذه السنوات، فحاولت مع زملائي الأفاضل وهم: الشاعر العراقي الكبير الأستاذ يحيى البطاط، والصحفية الإماراتية الجادة الموهوبة الأستاذة إيمان محمد، ثم انضم إلينا بعد عدة سنوات الصحفي اللبناني الشاب الجاد الأستاذ محمد غبريس، فضلا عن أكثر من عشرة مراسلين متميزين في العواصم والمدن العربية والأجنبية، أذكر منهم بكل مودة واحترام وتبجيل الأساتذة الأفاضل: سعيد شعيب (القاهرة)، جبار البهادلي (بغداد)، سعيد البرغوثي (دمشق)، ياسين عدنان (الرباط)، سليمى حمدان (بيروت)، أحمد الأغبري (صنعاء)، عبدالرزاق الربيعي (مسقط)، الحبيب الأسود (تونس)، فابيولا بدوي (باريس)، مجدي موسى (لندن)، عصام تركي (فرانكفورت)، طه عدنان (بروكسل)، هلال الحارثي (موسكو)، آدم تننتاو (باماكو).
أقول حاولت مع زملائي الأعزاء أن نقدم مفهومًا مغايرًا للصحافة الثقافية، مفهومًا أكثر عصرية ورشاقة وجاذبية، مفهومًا يعيد فضيلة القراءة إلى الناس بعد أن استولت الصورة على أعين الملايين وعقولهم. (تذكر من فضلك أن هذه الأمور حدثت كلها قبل ظهور مواقع التواصل الاجتماعي التي زلزلت أركان الصحافة الورقية). وأشهد أن تشجيع رئيس التحرير ومؤازرته لي أسهم بنصيب كبير في إنجاح هذه المفهوم، الأمر الذي حقق خلاله “المبدعون” حضورًا براقا في الواقع الثقافي العربي كله.
في الصفحة الأخيرة من هذا الملف كنت أكتب مقالي الأسبوعي تحت عنوان ثابت هو (الغد موعدنا)، وهكذا ظل هذا الباب نافذتي الأسبوعية على القراء كل أحد. لم أتخلف مرة واحدة بامتداد ستة أعوام ونصف العام، ولم يمنعني أحد من كتابة ما أشاء في أمور الثقافة والإبداع والفن والسياسة والحياة بشكل عام.
أجل… نجح ملف “المبدعون” بشكل كبير جدًا، الأمر الذي شجعنا على التفكير في إصدار مجلة ثقافية مستقلة، فكانت “دبي الثقافية” وتلك قصة أخرى.
واليوم… يمر أربع وعشرون عامًا على عملي بدبي، وكأنني غادرت القاهرة أمس.
حقا… ما أسرع الزمن!.