مقالات الرأى

ناصر عراق يكتب : رجاء النقاش وحكاياته المثيرة!

أعد نفسي من المحظوظين لأنني عرفت الناقد الراحل الأستاذ رجاء النقاش عن قرب في سنواته الأخيرة، وعندما أقول عن قرب أعني أنني جلست إليه ساعات طويلة في القاهرة ودبي والكويت، وأن الاتصالات التليفونية الطويلة شبه اليومية لم تنقطع بيني وبينه بامتداد أربع سنوات على الأقل، وأنه تفضل مشكورًا ودعاني عدة مرات لزيارته في فيلته بحدائق الأهرام، كما دعاني للسهر معه في أكثر من مكان بالقاهرة، وكذلك دعوناه في أكتوبر من عام 2005 لزيارة دبي عندما كنت أدير تحرير مجلة (دبي الثقافية) ليشاركنا انطلاقها بشكل شهري، بعد أن ظللنا عامًا نصدرها بشكل فصلي، علاوة على أنه تلطف وأكرمني بالمديح الجميل مرة في مقاله الأسبوعي بالأهرام.

لقد واظب الأستاذ رجاء على الكتابة بانتظام معنا في دبي الثقافية منذ العدد الخامس الذي صدر في أكتوبر 2005 حتى رحيله في 8 فبراير 2008، الأمر الذي منحني فرصة كبيرة للتواصل الدائم معه، ولأنه كان إنسانا كريمًا معطاء، فقد أهداني قبسات من ذكرياته وتاريخه العامر مع الثقافة والمثقفين ومع الفن والفنانين، حين لمح شغفي الكبير بطرح الأسئلة المتنوعة عليه كلما التقينا أو تهاتفنا.

كعادتي دومًا، حين تهبني المقادير نعمة الاقتراب من أحد القامات السامقة في حياتنا الثقافية والإبداعية يشتعل في وجداني الحس الصحفي، فأغمره بالأسئلة، وأتركه يقص ويحكي ويتجول في سراديب حياته ليسير فوق حرير ذكرياته برفق، ولا أقاطعه أبدًا إلا للضرورة القصوى، ولأن الأستاذ رجاء حكّاء من طراز فريد، فقد أسعدني بالإجابة عن كل أسئلتي مهما كانت درجة خصوصيتها، بل رحب بها وأفاض في الشرح والتوضيح والتحليل.
تعال أقص عليك بعض قبسات من ذكريات الأستاذ رجاء ومواقفه المثيرة.

حكى لي الأستاذ رجاء أنه في عام 1952 عمل في الفترة المسائية مصححًا لغويًا في صحيفة يملكها ويرأس تحريرها ابن الزعيم الشهير أحمد عرابي، وكان رجاء مازال طالبًا في كلية الآداب جامعة القاهرة (هو من مواليد 3 سبتمبر من سنة 1934)، ويضيف ضاحكًا: (والله يا ناصر كان الرجل يشبه أباه بصورة كبيرة جدًا، فحين يدخل غرفة التصحيح بقامته الطويلة وطربوشه الأحمر القاني وشاربه المبروم من طرفيه أشعر أنني أمام الزعيم عرابي نفسه، فأنهض واقفا برهبة واحترام وأدب وأرفع يدي لأؤدي له التحية العسكرية).

أذكر مرة أنني سألته عن علاقته بأم كلثوم، فابتسم وقال لي: (حين توليت رئاسة تحرير مجلة الكواكب في منتصف الستينيات تجرأت واتصلت بها تليفونيًا طالبًا منها أن تسمح لي بزيارتها لإجراء حوار طويل معها، فوافقت، فلما ذهبت إلى فيلتها بالزمالك، اصطحبوني إلى الصالون لانتظارها، وحين أقبلت السيدة العظيمة تأملتني بتعجب، ويبدو أنها قالت لنفسها: ما هذا الشاب الصغير؟ فقد كنت نحيفا وعمري 31 سنة فقط، فكيف لي بمحاورة أم كلثوم بجلال قدرها؟).

لكن ذكاء رجاء وحماسته وحيويته، كل ذلك أسعد أم كلثوم، وهكذا حظي بمرافقتها مرتين حين كانت تغادر القاهرة لتشدو في الدول العربية، مرة إلى السودان، والثانية إلى ليبيا، حيث قال لي: (كانت الحكومة المصرية تكلف ثلاثة صحفيين لمصاحبة أم كلثوم في كل رحلة فنية لها خارج مصر، وكانت صاحبة الأطلال تختار بنفسها اثنين آخرين من الصحفيين ليغدو العدد خمسة من رجال الإعلام مهمتهم تقديم تغطية صحفية لحفلات أم كلثوم في الخارج، وقد شرفتني واختارتني مرتين).

ويستكمل الأستاذ رجاء: (عندما تصل أم كلثوم إلى أي بلد عربي يكون في استقبالها عادة وزير الإعلام أو الثقافة في هذا البلد، لكن حين وصلنا إلى الخرطوم فوجئنا بحضور السيد رئيس الجمهورية نفسه والسيدة قرينته في مطار العاصمة السودانية لاستقبال سيدة الغناء، وقد قرر الرئيس دعوة كوكب الشرق فورًا إلى تناول الطعام في القصر الجمهوري. وبالفعل توجهنا نحن أعضاء الوفد المرافق لها من المطار إلى القصر، وكانت المفاجأة الثانية أننا حين بلغنا القصر وجدنا عددًا كبيرًا جدًا من سيدات السودان الفضليات ينتظرن أم كلثوم ليصافحنها، وهكذا ظلت أم كلثوم واقفة نحو ثلاث ساعات وهي تصافح بمودة شديدة كل سيدة سودانية، وقد رأيت الفرح يشرق من عينيها رغم الإجهاد الشديد).

في عام 2007 التقيت الأستاذ رجاء والسيدة قرينته الطبيبة هانيا في الكويت، إذ نظمت مجلة العربي آنذاك برئاسة تحرير الدكتور سليمان العسكري مؤتمرًا كبيرًا عن المجلات الثقافية وتاريخها ودورها بفندق الشيراتون حيث نقيم، وكنت مدعوًا مع كوكبة معتبرة من مثقفي مصر والعالم العربي، ومن أسف فقد عاني الأستاذ رجاء آلاما مبرحة في تلك الرحلة، فأمسى حبيسًا في جناجه طوال أيام المؤتمر، ولم يحضر أي جلسة من جلساته سوى الجلسة الأخيرة التي ترأسها بنفسه، لذا حرصت على زيارته باستمرار في جناحه بالفندق للاطمئنان على صحته، وفي إحدى المرات، استقبلتني زوجته الكريمة والحزن يطل من عينيها، إذ كان الأستاذ يتألم كثيرًا وهو في الحمام، فلما خرج، بدا الإنهاك قد هدّ منه البدن، وقال لي بأسى: (تخيل يا ناصر… لم أتناول أي طعام منذ 24 ساعة سوى الزبادي، فآلام القولون فوق ما أطيق)، ثم مضى يسألني عن أجواء المؤتمر وخلافه. وبعد فترة وجيزة حضر إلى الجناح للاطمئنان على صحته كل من الكاتب الكبير الراحل الأستاذ أبو المعاطي أبوالنجا، والكاتب المدهش الأستاذ الدكتور محمد المخزنجي رعى الله أيامه ولياليه.

على الفور أخذ الأستاذ أبو المعاطي يستفسر بهدوئه المعهود عن طبيعة الآلام التي يكابدها الأستاذ رجاء، ثم شرع في طرح الحل الناجع، وهو إرسال أحد لشراء بعض النباتات المعينة من سوق شعبي قريب من الفندق، ثم وضع هذه النباتات في وعاء به ماء مخلوط بالجنزبيل على ما أذكر، وتترك حتى تغلي لمدة ثلاث دقائق، ثم تقلـــ، وهنا تقدمت الدكتورة هانيا لإعطاء الدواء لزوجها، لكن الأستاذ رجاء لم ينتبه، وظل مشدودًا، مثلنا جميعًا، إلى ما يقوله الأستاذ أبو المعاطي الذي واصل وصفه لطريقة إعداد العلاج، بينما الدكتورة هانيا تلح على زوجها في سرعة تناول الدواء، حتى انفعل الأستاذ رجاء والتفت نحوها وصاح: (من فضلك يا هانيا، دعينا نستكشف الجانب الطبي عند أبوالمعاطي أبو النجا)، فانفجرنا جميعًا بالضحك، وأولنا الأستاذ أبو المعاطي نفسه!.

طوال تجربتي معه في دبي الثقافية، لم يخبرني أبدًا عن موضوع المقال الذي سيكتبه لكل عدد، فكنت أفاجئ باتصال تليفوني منه يطلب مني أن أستعد لاستقبال مقاله عبر الفاكس، حيث يكتبه بخط يده، فيصل إلى نحو 25 ورقة، لكني رجوته مرة أن يخصص مقاله عن أم كلثوم لأننا ننوي إصدار عدد خاص عنها بمناسبة ذكرى رحيلها، فوافق وأنجز مقالا مدهشًا، ومرة أخرى، رجوته أن يخصص مقاله عن نجيب محفوظ حين كان الرجل يكابد آخر آلامه في الحياة، فوافق وأطلق على مقاله عنوانا مؤثرًا منطوقه (اللهم احفظ نجيب محفوظ)، لكن العدد صدر عقب وفاة نجيب محفوظ بيومين فقط!.

نعم… كنت أعرف عمق المحبة التي تجمع الأستاذ رجاء بصاحب نوبل، فهو الذي سجّل ذكريات محفوظ في 50 شريط تسجيل مدة كل شريط ساعة كاملة، حيث أكد لي أنه كان يلتقيه مرتين في الأسبوع بامتداد شهور طويلة، ثم صدرت هذه المذكرات الرائعة عن مؤسسة الأهرام بعد ذلك، وقد تفضل مشكورًا وأهداني نسخة منها، كما شاهدت في مكتبه بفيلته (تلغراف) تلقاه من صاحب الحرافيش يتمنى فيه الشفاء العاجل للأستاذ رجاء إثر تعرضه لوعكة صحية، وقد ذيّل محفوظ هذا التلغراف هكذا (المخلص نجيب محفوظ)، ومن فرط حب رجاء لمحفوظ وتلغرافه قام بتكبيره ووضعه في إطار جميل ازدانت به جدران المكتب.

أجل… أجاب الأستاذ رجاء النقاش عن الكثير من أسئلتي المتنوعة حول علاقته المضطربة بيوسف السباعي وصداقته العميقة مع أحمد عبدالمعطي حجازي، وقد رأيت ورود هذه العلاقة بنفسي تثمر وتزدهر في الكويت، كما تكلم معي بوضوح شديد عن الكاتب الصحفي الكبير الراحل الأستاذ صلاح عيسى وما جرى عند تأسيس صحيفة القاهرة، (أفتح هذا القوس لأخبرك أنني كنت شاهدًا على لقاء مفاجئ جمع رجاء وصلاح في أحد مطاعم فندق الشيراتون بالكويت، حيث لم يستمر اللقاء سوى دقيقتين)، كما تحدث باستفاضة عن صداقته مع الأستاذ هيكل وأحمد بهاء الدين وفاتن حمامة وعادل إمام وصلاح عبدالصبور ومحمود درويش وسميح القاسم، وأوضح لي رأيه في جابر عصفور وفاروق عبدالقادر والمطربة الجميلة وردة الجزائرية، ولم ينس أن يفسر لي طبيعة الاشتباك الحاد مع عمر الشريف الذي جرى في إحدى السهرات، حتى أنه كتب مقالا في الأهرام بعنوان (عمر الشريف والحمار)، وغير ذلك كثير من الوقائع والأحداث المهمة حكاها لي بصدر رحب وذهن صاف، والتي سأنشرها كلها يومًا ما.

في ذكرى رحيلك يا أستاذ رجاء… كم أفتقد أحاديثك الممتعة.

زر الذهاب إلى الأعلى