مختار محمود يكتب: “هناك إله”.. كتاب هزَّ قلوب الملاحدة وعقولهم “2-2”
تناولنا في المقال السابق طرفًا من حياة الفيلسوف الإنجليزي “أنتوني فلو”، مؤلف كتاب: “هناك إله”، الذي انقلب به على إلحاده القديم، واعترف بأنه كان مخطئًا طوال أكثر من خمسة عقود، وأعلن من خلاله إيمانه الكامل بأن لهذا الكون ربًا وإلهًا يدبر أمره ويتحكم في أسراره وتفاصيله وأموره كافة.
وفي هذا المقال.. نعرض للكتاب الصادم والمثير للجدل الذي تم طبعه قبل 19 عامًا، وما تناوله من أفكار وتوضيحات، شكلت في مجملها صدمة بالغة، لجموع الملاحدة، في مشارق الأرض ومغاربها، حيث كانوا ينظرون إلى صاحبه باعتباره كبيرهم الذي علمهم الإلحاد، وتربوا على تنظيراته ونظرياته الإلحادية المتطرفة التي ترفض الإلوهية رفضًا تامًا، وتؤمن بالعدمية إيمانًا كاملاً، فإذا به ينقلب على كل ذلك ويعلن إيمانه بوجود الإله قبيل وفاته بسنوات قليلة جدًا.
ينقسم كتاب: “هناك إله” إلى قسمين بعشرة فصول مع ملحق، حيث يتحدث “أنتوني فلو” في القسم الأول، وعبر 3 فصول، عن فترة إنكاره للإله، كاشفًا عن أنه ألحد في عُمر 14 عامًا؛ بسبب وجود الشر في العالم، وبعدما شبَّ على الطوق، والتحق بجامعة أكسفورد، وتخصص في دراسة الفلسفة، انضم إلى “نادي سقراط” الذي كان يعتمد على قاعدة أرسطو الفلسفية: “اتبع الدليل حيثما قادك”، وأعدَّ بحثًا في العام 1950، وضع من خلاله ردودًا ممنهجة على ما أسماه “الادعاءات الدينية”، وتم الاحتفاء الشديد بهذا البحث، حتى أنه وُصف يومئذ بأنه “أهم بحث فلسفي تم نشره في القرن الماضي”.
ما زلنا في القسم الأول من الكتاب، حيث تحدث “أنتوني فلو” عن إعداده بحثًا آخر في العام 1976 بعنوان “افتراض الالحاد”، حاول من خلاله إثبات أن “الإلحاد هو الفطرة في الإنسان، وليس الإيمان بوجود إله”، وهو البحث الذي أثار تفاعلاً كبيرًا أسهم في الترسيخ لشهرة المؤلف عالميًا كزعيم للملحدين.
في القسم الثاني من الكتاب، تحدث “أنتوني فلو” عن رحلة اكتشافه للإله، من خلال قصة طريفة وبسيطة وغير معقدة قادته بسهولة غريبة إلى الانقلاب على جميع أفكاره ومعتقداته وكتبه الثلاثين التى أسست للفكر الإلحادي، ثم يُفصل القول في عدد من الأدلة والبراهين النافية لافتراضية الإلحاد وإسقاط هذه النظرية تمامًا، والتأكيد على حتمية وجود إله واحد لهذا الكون.
في فصل آخر..وعلى النقيض من محدثي العهد بالإلحاد الذين يحتجون بالعلم الحديث على إنكارهم وجود إله، يتطرق “أنتوني فلو” إلى الاكتشافات العلمية المتطورة التي قادت عقله المتمرد إلى حتمية الإيمان بالله والتخلي عن إلحاد القديم، مثل الآلية المعقدة للحامض النووي “دي إن إيه”.
“انتوني فلو” لم يكتفِ بذلك في هذا السياق، بل استشهد بعلماء كثيرين معروفين عبروا بإيمانهم بهذا الأمر مثل: إسحاق نيوتن، والعالم الفيزيائي الحاصل على جائزة نوبل شرودنجر، وماكس ويل، و أينشتاين تحديداً، لافتًا في هذا السياق إلى أن كبار الملحدين مثل: دوكنز وغيره يريدون أن يظهروا أينشتاين بمظهر الملحد، رغم أن الأخير نفى عن نفسه التهمة مرارًا وتكرارًا.
في الفصول الأخيرة من الكتاب.. يتحدث “أنتوني فلو” عن تعريف الإله ووجوده في حياته، منتهيًا إلى أن إله الكون يجب أن يكون خارج إطار الزمان والمكان، بل وخارج تصور المخلوقات التي تفكر بحدود فكرها الضيق الذي لا يسمح لها بأن تدرك ذات وكُنه الصفات الإلهية، وكأنه يعبر دون قصد عن قوله تعالى: “ليس كمثله شيء وهو السميع البصير”، وقوله تعالى: ” لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير”.
وهكذا وبعد أكثر من خمسين عاماً قضاها “أنتوني فلو” في الإلحاد والدفاع عنه والتنظير له، حتى أنه صُنف يومئذ بأنه من أشرس الملاحدة، وشكلت كتبه الثلاثون ومقالاته المتدفقة حجر أساس فكري للملحدين الحاليين، عاد فيلسوف الأديان البريطاني الشهير ومدرس الفلسفة في جامعات أوروبا مجددًا بعد أن بلغ من العمر واحدًا وثمانين عامًا، ليعلن على رؤوس الأشهاد أنه يؤمن بوجود الإله بدافع من البراهين العلمية الرصينة، في حدث يعتبر من أقوى الصدمات التي أثرت على مفكري الإلحاد ومنظريه وشكل صفعة مدوية على وجوههم، لدرجة أن كاهن الإلحاد الأشهر “ريتشارد داوكينز” نعاه قائلاً: لقد كان أنتونى فلو ذات يوم، فيلسوفًا عظيمًا، ولكن الآن، وبعد أن آمن بوجود الإله، وأعلن أن قضية أولية العالم، قضية خاسرة أمام المعطيات العلمية الحديثة، وأن قوانين الطبيعة المتناهية في الدقة لابد لها من كاتب، وأن التطور الدارويني لم يكن ليصمد أمام أدلة الكيمياء الحيوية، والتي تثبت أن الخلية كانت تمثل صندوقا أسود لداروين لم يعلم عنه شيئًا يذكر، وأن آليات عمل DNA وتشفيره وترجمته تتطلب وجود مصمم ذكي، وأن الحل الديني لمعضلة الشر؛ هو الأكثر عقلانية ومنطقية.. بعد أن أعلن الفيلسوف العظيم، عن كل ذلك، من الطبيعي جدًا ألا يستمر داوكينز – فضلا عن بقية منظري الإلحاد الجديد في اعتباره كذلك”..وتلك هي معضلة الملاحدة ومنكرى الألوهية: فإما أن تكون معنا أو نكون ضدك، وصدق الله العظيم حيث يقول: “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق”.