مختار محمود يكتب: لماذا يتحول بعض المثقفين إلى طابور خامس وقت الأزمات؟
دعنا ابتداءً نؤصِّل لمُصطلحي: “المثقف” و”الطابور الخامس”. أمَّا “المثقف” لغويًا –بحسب ما ورد في المعاجم العربية- فهو: الشخص الحَذِق, الفَطِن، الذكي، سريع التعلم والفهم. و”المثقف” –اصطلاحًا- هو: “ناقدٌ اجتماعيٌّ، همُّه أن يحدِّد ويحلِّل ويعمل من خلال ذلك على المساهمة في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعي أفضل، نظامٍ أكثر إنسانية، وأكثر عقلانية، وهو الممثِّل لقوَّةٍ محرِّكةٍ اجتماعيًّا، يمتلك من خلالها القدرةَ على تطوير المجتمع، من خلال تطوير أفكار هذا المجتمع ومفاهيمه الضرورية”. والمثقف يملك قدرًا من الثقافة التي تؤهله لقدرٍ من النظرة الشمولية، وقدرٍ من الالتزام الفكري والسياسي تجاه مجتمعه، وهو مبدع كل يوم، يستطيع بهذا الإبداع الثقافي أن يفصل بين تهذيبات القول وتجليات الفكر، بين الثقافة وعدم الثقافة، بين التحضر والتطور.
وأمَّا “الطابور الخامس” فهو مصطلح مُتداول في أدبيات العلوم السياسية والاجتماعية، نشأ أثناء الحرب الأهلية الأسبانية التي نشبت العام 1936 ، وأول من أطلق هذا التعبير هو الجنرال “إميليو مولا” أحد قادة القوات الوطنية الزاحفة على “مدريد”، وكانت تتكون من أربعة طوابير من الثوار، فقال حينها: إن هناك طابورًا خامسًا يعمل مع الوطنيين لجيش الجنرال “فرانكو” ضد الحكومة الجمهورية التي كانت ذات ميول ماركسية يسارية من داخل “مدريد” ويُقصد به مؤيدي “فرانكو” من الشعب، وبعدها ترسَّخ هذا المعنى في الاعتماد على الجواسيس في الحرب الباردة بين المعسكرين: الاشتراكي والرأسمالي.
وما بين “المثقف” وبين “الطابور الخامس” غرام متصل وعشق لا ينتهي وعلاقة آثمة ممتدة لا تنفصم عُراها أبدًا. وفي جميع الحروب والأزمات التي حلت وتحلُّ ببلاد العرب يُهرع بعض المثقفين منذ اللحظة الأولى إلى “الطابور الخامس”، وقد أعدوا العدة لذلك من لغو القول وتزييف الحقائق وخلط الأوراق وتجميل القبيح وتقبيح الجميل، وهذا ما نراه واقعًا جليًا منذ اللحظة الأولى للعدوان على غزة، .
خيانة بعض المثقفين لقضايا أوطانهم وأمتهم أمر واقع راسخ لا شك فيه ولا يقبل جدالاً, فهم دائمًا يحرصون على أن يكونوا في طليعة المثبطين للهمم، المزيفين للوعي، من خلال تبنيهم رواية العدو والدفاع عنها؛ باعتبارها حقيقة ساطعة.
يمكن أن نلمس تشخيصًا أكثر تفصيلاً لظاهرة “خيانة المثقفين” في الكتاب الذي يحمل نفس الاسم، وكتبه المؤلف الفرنسي “جوليان بندا” قبل 100 عام تقريبًا، حيث أبرز تخاذل طبقة المثقفين وتقاعسهم ونأيهم بأنفسهم عن القضايا المصيرية والمهمة أو انحيازهم للطرف الآخر؛ أملاً في أن يكونوا معهم عندما تضع الحروب والأزمات أوزارها.
يرى “بندا” أنَّ المثقف الحقيقي والأمين على دوره الريادي والممتاز يرقى لمنزلة “حفيد الأنبياء” صاحب الرسالة الفكرية والموقف الأخلاقي، ما يستدعي منه تضحية ونضالاً ووضوحًا، وهو ما عبَّر عنه “إدوارد سعيد” في كتابه المشابه: “تمثيلات المثقف”، حيث وصف المثقف الصادق بأنه “يمثل الحقيقة في مواجهة القوة”.
العدوان على غزة أعاد إلى الواجهة إشكالية “خيانة المثقفين”، وعكس حالة الخذلان عند الطبقة الكبيرة منهم, حيث هُرع معظمهم إلى جحورهم؛ يرتقبون انتهاء الأزمة؛ وكأن الصمت وقت الحرب ليس قمة الخيانة، فيما شكلت نسبة كبيرة منهم طابورًا خامسًا, حيث سخروا من فكرة المقاومة وجنودها والناطقين باسمها، وسعوَا إلى شيطنتهم وإظهار الكيان في صورة المُعتدَى عليه الذي يحق له الدفاع عن نفسه من خلال قتل آلاف الأطفال والنساء وهدم المستشفيات والمدارس والبنايات على رؤوس قاطنيها, فيما تحدث قليلون على استحياء عن مأساة أبناء غزة الذين انقطعت عنهم أسباب الأرض ولم تأتهم أسباب السماء بعد.
منذ يوم السابع من أكتوبر الماضي، لم يتوقف بعض المثقفين العرب عن بث سمومهم التي يخجل كثير من الأفاعي عن تقيؤها- بهدف نسف فكرة المقاومة، وأحقية الفلسطينيين في الدفاع عن وطنهم المحتل، وتحرير الأقصى الأسير، بل زادوا على ذلك بأن امتدحوا الكيان، وزعموا أحقيته في الدفاع عن نفسه، وكأنه ليس كيانًا غاصبًا مُحتلاً ليس من حقه –بحسب مواد القانون الدولي- الدفاع عن نفسه وأراضيه، كما سخروا من بعض الدول الغربية واللاتينية التي دعمت الحق الفلسطيني وانحازت له منذ اليوم الأول, مثل: روسيا وكوريا الشمالية وكولومبيا وبوليفيا والإكوادور؛ بغضِّ النظر عما إذا كان هذا الدعم وذلك الانحياز لأغراض ومكايدات سياسية قريبة أو بعيدة المدى أو لا!
الأسماء البارزة من المثقفين العرب الذين لا يتوقفون عن اللغو والضجيج في الأوقات العادية آثروا السلامة واختفوا عن المشهد منذ بداية الحرب على غزة؛ حيث لا يطيقون إثارة غضب الكيان والولايات المتحدة تحت أي ظرف؛ خوفًا وطمعًا، ولم ينسّ الناس بعد أكذوبة يوسف زيدان الذي زعم يومًا أن المسجد الأقصى ليس في فلسطين أساسًا.
لم يكن غريبًا أن يتضامن بعض المثقفين العرب مع معهد إسرائيلي متخصص في دراسات الأمن القومي هاجم شيخ الأزهر الشريف الدكتور أحمد الطيب؛ بسبب مواقفه الداعمة لغزة وأهلها..فهل هناك فُجر وخيانة أعظم من ذلك؟
قريبًا..سوف تضع الحرب على غزة -بإذن الله- أوزارها، ولكن بعدما تكون قد أسقطت الأقنعة وكشفت الوجوه وعرَّت العورات، وأثبتت حقيقة قاطعة وهي: أن بعض المثقفين العرب وقت الحروب والأزمات ليسوا أكثر من طابور خامس يضم بين ثناياه العجزة والخونة والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع!