مختار محمود يكتب: تدوينات مواطن غزاوي موجوع!
مأساة قطاع غزة لا تزال مستمرة، ووجعُ أهلها لا يزال يتضاعف، والمُصاب جلل، والبلاء عظيم، تنوء بحمله الجبالُ الشوامخُ. أكثر من ثلث العام انقضي ولم تتوقف المدفعية الصهيونية عن دك الديار وذويها وسط صمت عالمي وإنساني مُخزٍ. فقدَ الناسُ هناك جميع مفردات الحياة ومقوماتها وأبسط مستوياتها. الأوضاع الإنسانية البائسة على الأرض تفوق كل تصوُّر، وتغلب أي خيال جامح. ليس مَن رأي وشاهد عبر القنوات الفضائية المؤدلجة كمن عاش المأساة منذ اللحظة الأولى ولا يزال. المواطن الغزاوي أبو مصطفى السعافين واحدٌ من هؤلاء المساكين. لا يزال الرجل صابرًا قابضًا على إيمانه، مترقبًا لحظة تعود فيها الحياة كما كانت، ولكنه يخشى ألا تعود. “السعافين” يُسجل على حسابه الشخصي بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك بصورة منتظمة مشاعره الغاضبة، وملاحظاته المؤلمة، على ما جرى ويجري. تدوينات “السعافين” الجامعة المانعة -التي تقطر فصاحة وبساطة في آنٍ- لا تُدينُ الجانب الصهيوني الغاشم فحسب، ولكنها تدينُ أنظمة تخلَّت وقتَ الشَّدة، وشعوبًا انشغلت بتوافه الأمور عن نكبة جديدة لن يُمحَى ذِكرُها أبدًا من التاريخ. تدوينات “السعافين” اليومية صرخةٌ زاعقة في وجه الإنسانية المتخاذلة، وصفعةٌ مدوية على جلدها السميك!
في واحدةٍ من أحدث تدويناته كتب “السعافين”: “الناس هنا لا تبحث عن النصر، الناس تبحث عن السَّتر، السَّتر فقط ، الناس هنا مخذولون بشدة، عرفنا ظهرنا وظهيرنا، وأنه لا ظهر لنا ولا ظهير، أوقفوا الحرب بأي ثمن”، مضيفًا: “نريد أن نُلملم ما تبقى من جراحنا، ونتفقد مَن بقي من أحبابنا، نريد أن نعود إلى حُطام بيوتنا،
أهلكنا النزوحُ، لم يتبقَ فينا رمقُ صحة أو أمل أو حياة. مَن تبقى من أطفالنا يحتاج سنواتٍ من العلاج النفسي، نحن مجروحون بشدة، نحن مظلومون بشدة..يارب انظر لنا نظرة رحمة”.
يأسى “السعافين” لانشغال الشعوب العربية ببطولتي أمم إفريقيا وأمم أسيا عما يحدث في غزة، حيث كتب: “شعبٌ يتعرض للإبادة، ويصرخ من شدة الألم، وشعوب أخرى تصرخ فرحًا لأجل لعبة كرة، وندَّعي أننا أمة عربية واحدة ..لم يجمعنا شيء في الماضي، ولن يجمعنا شيء في الحاضر ولا المستقبل”، مردفًا: “بينما شخص يطير فرحًا لهجمة في ملعب، هناك من تطير أجسادُهم أشلاءً في نفس الوقت..لا عتابَ لمن يحتفل بينما آخر يُباد”! قبل أن يختتمها بكلمات كاللكمات الموجعات: ” العتاب فقط: أننا سجناء لكذبة واحدة “أننا واحد”، نحن -أهلَ غزة- غُرباء، لا نشبه أحدًا ولا نريد أن نشبه سوى أنفسنا”، متسائلاً: “كيف يموت الناس هنا في غزة بشتى صنوف الموت، وباقي الأمة تكتب عن كرة القدم ..لا دينَ ولا حتى حياءَ”؟!
وفي تدوينة ثالثة.. يُذكِّرُ الغزاويُّ المكلوم عمومَ العرب والمسلمين بحديث النبي الكريم: “أيما أهل عرصة – منطقة أو بلد – أصبح فيهم امرؤ جائعًا، فقد برئت منهم ذمة الله ورسوله”.
وفي تدوينة أشد بؤسًا..كتب “السعافين”: “ليتكم تسمعون: ما تعيشه غزة هو نكبة تفوق نكبة عام ٤٨ بمراحل؛ الإحصاءات الأولية تشير إلى أرقام مرعبة. خذوا الحقيقة من أهل غزة، ولا تسمعوا لأحدٍ خارجَها، الضحايا -حتى الآن0 أكثرُ من مائة ألف، بين شـهيد ومفقود وجريح”، متابعًا: “أكثر من ٧٥% من منشآت قطاع غزة: مساكن، مساجد، مستشفيات، مؤسسات، مصانع، ومزارع.. تم تدميرُها”!
ويستطرد: “ثلثا سكان قطاع غزة نازحون خارج بيوتهم في خيام، و ظروف مأساوية لا تصلح للعيش البشري. تم تدمير النظامين: الصحي والتعليمي بشكل كامل، حيث انتشرت الاوبئة والأمراض بين الناس، ودُمِّرت معظم المدارس والجامعات والمؤسسات التعليمية. آلاف الشهداء لم يتم مواراتهم الثرى، وتحللت جثثهم، وأكلتها الحيوانات والطيور في الشوارع وتحت الأنقاض”، موضحًا: جميع المرضى في قطاع غزة حُكم عليهم بالموت، ويموتون واحدًا تلو الآخر؛ بسبب عدم وجود نظام صحي، خاصة مرضى السرطان والفشل الكلوي”!!
يؤكد “السعافين” في تدوينته التي تمزِّق نياط القلب تمزيقًا: “في غزة.. فُقد الأمن بشكل كامل، سواء كان الأمن الاجتماعي أو الأمن الغذائي أو الصحي. غزة دخلت في مجاعة حقيقية؛ بسبب الحصار الكامل المفروض عليها”، مختتمًا: “هذه حقائق لا يعرفها معظم الناس خارج غزة، ويتجاهلها معظم الإعلام الذي لا يتحدث إلا عن إنجازات وصمود أهل غزة.عبارة: “أنقذواغزة” أصبحت لا محل لها من الإعراب؛ فلم يعد هناك شيء يمكن إنقاذُه. لم يتبقَ كثيرٌ من الوقت لكي تنعى لكم غزةُ نفسَها بكل مَن فيها وما فيها ..اللهم ارحمنا برحمتك واغننا بفضلك عمن سواك، إنا لله وإنا إليه راجعون”.
وفي تدوينة أخرى تعكس حالة الألم المتدفق التي استوطنت قلب وعقل المواطن الغزاوي كتب “السعافين”: “تذكَّر -وأنت تأوي إلى فراشك وتحتضن أطفالك بمرح ودفء وعطف- أن لك إخوة لا يعرفون للنوم طعمًا؛ قلقًا وخوفًا على حياة أطفالهم وأهلهم”، مبتهلاً إلى الله: “اللهم إنَّا اُبتلينا بأحبِّ الأشياء إلينا: أبنائنا، بيوتنا، راحتنا، أمننا، طمأنينتنا، ومستقبلنا..اللهم اجزِنا جزاءَ الصابرين المُحتسبين”.
وقبل بضعة أيام كتب “السعافين” تدوينة أليمة صادمة جاء فيها: “بعد مرور ١١٩ يومًا من الحرب، وكأننا ما زلنا في اليوم الأول؛ الآن قصفٌ شديدٌ جدًا ومتوالٍ. مئات الشهداء والجرحى والمفقودين يوميًا. تهجير قسري وإخلاء مربعات سكنية كاملة ونسفها. حصار شديد وتجويع على غزة”، متسائلاً في حسرة: “هل حدث هذا في العالم من قبل، هل نحن عرب، هل نحن مسلمون”؟!
يتذكر “السعافين” ماضيًا كان لا يزال قريبًا في تدوينة أخرى: “لا تخنُّي ذاكرتي في تذكُر شوارع المدينة، وأزقَّة المُخيمات، المحالّ التجارية، بائعي القهوة على الطرق، مَن منا لا يتذكر بوظة “كاظم” أو قهوة “مزاج”. من منا لا يتذكر اكتظاظ منطقة “الرمال” بالناس في الأعياد وبعد الإفطار في رمضان، ومنطقة الجندي المجهول وسيارات الأطفال التي تجوبها بأضوائها. مَن ينسى شوارع البلدة القديمة، ورائحة البهارات التي تعجُّ بها، مَن فينا لم يشترِ زينة رمضان من هناك، وفي طريقه يزور المسجد العُمري والسيد هاشم ، أو أن تُنعش جسدك المُتعب بالذهاب إلى حمام السمرة هناك. من ينسى شارع الرشيد، فيه بائعو الذرة والكراسي المُطلة على البحر، الاستراحات الممتدة من دوار “أبو حصيرة” إلى مدخل الشاطئ”، متسائلاً في وجع لم يعد دفينًا: “كيف ينسى الإنسان بيته، راحته، بعد عودته من يوم طويل، لينعم بكوب من القهوة ودفئه على سريره، طقوسه لإنجاز مهامه، وآخر الأسبوع ويوم الجمعة والصلاة في المسجد وزيارة الأحباب”؟
ويختتم “السعافين” تدوينته: “كان البيت والطريق إليه جميلاً، كان العمر يُعاش بصدق اللحظات ودفئها، كانت سعادتنا أن نعود إلى بيوتنا. ذهب كل هذا و صارت السعادة أمنية، آآآه يا غزة يا وجع القلب”!!