مختار محمود يكتب: اِبعد عن الحب وغنِّي له!
ربما لو استقبل “عنترة” من عُمره ما أدبر ما خاض الوغى من أجل “عبلة”. وربما لو جلس “جميل” فى نهاية عمره مع نفسه لسخر منها وازدراها؛ لأنها انشغلت بنظم القوافي في حب “بثينة”. وربما لو فكر “قيس” قليلاً ونظر إلى حاله ما سهر الليالي فى عشق “ليلى”، وربما لو أعاد “عمرو بن كلثوم” حساباته قبل الرحيل لعاد إلى رشده وامتنع عن التحرش العنيف بالنساء في أشعاره وفي حياته، وربما لو أعاد “عمر بن أبي ربيعة” النظر في قصائده لتبرأ من قصيدته التي يستهلها بقوله:إذا أَنتَ لَم تَعشَق وَلَم تَدرِ مَا الهَوى/ فَكُن حَجَرًا مِن يابِس الصَّخر جَلمَدا.
ومن أجل ذلك..ربما يصبح الشاعر الغنائي “فتحي قورة” أكثر ذكاءً من هؤلاء جميعهم، عندما كتب أغنية “ابعد عن الحب وغني له” في ستينيات القرن الماضي، محذرًا فيها من الوقوع في “براثن الحب” و”أفخاخ الغرام” و “أكمنة الهوى”.
استوحى “قورة” عنوان أغنيته من المثل الشائع: “ابعد عن الشر وغني له”، فكأنما قصد الشاعر –وهو مُوفَّق في ذلك- الربط بين الحب والشر، باعتبارهما وجهين لعُملة واحدة، ولأنهما يقودان إلى طريق واحد ونهاية محتومة ومصير غير مأمون باستثناءات محدودة جدًا آخذة في التلاشي فى السنوات الأخيرة، حتى ضجَّت المحاكم المختصة بالدعاوى والقضايا، وحتى لجأ اهل الحل والعِقد من أصحاب العمائم إلى العبث بأمور الطلاق، وصولًا إلى إباحة زواج المحلل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من ظاهرة الطلاق التي تنفرد مصر بمركز متقدم فيها مثل حوادث الطرق!
الأغنية -التي لحَّنها منير مراد وغنَّاها عادل مأمون- تقول كلماتها: “ابعد عن الحب وغنيله/ وإن فات عليك إياك تنادي له/ خليك زيِّنا في حياتنا هنا/ لا خدنا منه ولا بنديله”، قبل أن تُحذر فى مقطع تالٍ من الافتتان بالجمال المادي مهما كان لافتًا وطاغيًا؛ فمصيره إلى الاعتياد ثم الزوال: “خلي العيون السود وأصحابها والحب بعيد/ واسأل عليها اللي مجربها وأساه بيزيد/ ده ياما شاف الويل في غيابها وعيونه صعبت على منديله”.
يُعدد الشاعر إيجابيات الإقلاع عن العشق والهوى وسهر الليالي، باعتبارها أعظم فائدة من الإقلاع عن المخدرات و”المشي البطَّال”، بقوله: “ما أحلى الحياة بالقلب الخالي مين طايل مين/ بتنام عينيا ويرتاح بالي من شوق وحنين”!
تَعتبر الأغنية الحُب ضياعًا للعمر، والغرام إهدارًا لمراحل الشباب والكهولة وصولاً إلى الشيخوخة، ومنها إلى أرذل العمر، حيث يجب أن يذهب جميعُها في أمور أكثر جدية وأهمية من: “حرام يضيع في الحب شبابنا ليه نجني عليه/ وليه نجيب بإيدينا عذابنا راح ناخد إيه/ ترتاح قلوبنا ونقفل بابنا والحب لا يجيلنا ولا نجيله”.
مَن التزموا بالنصائح الغالية والثمينة التي تتضمنها هذه الأغنية لا ينشغلون بالاحتفال بطقوس عيد الحب العالمي الذي يحل فى الرابع عشر من شهر فبراير، ولا عيد الحب المحلي الذي يتزامن مع الرابع من الشهر الجاري، ولا يتزاحمون على أكشاك الورد ولا متاجر الهدايا، وسوف يعودون إلى منازلهم فى هذين اليومين تحديدًا مُطمئني البال والقلب، لن تُزعجهم عبارات النقد وألفاظ التأنيب وكلمات العتاب الثقيلة التي هي كالحجارة، إن لم تكن أشد قسوة..”وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ”.
وفي مثل هذه المناسبات.. يتعاظم إحساس “السناجل” بقوتهم وبنشوة انتصارهم في الحياة، مُدركين أن الفارق بين عيد الحب وعيد الأضحى هو الخروف فقط، وما أعظم هذه اللحظة، وما أعظم مَن يعيشونها!
المدهش أن المصريين ينفقون -وفقًا للأرقام الرسمية- أكثر من 90 مليون دولار سنويًا على دباديب عيد الحب، ناهيك عن الهدايا المادية الثمينة الأخرى، ما يعني ضعفي الرقم المذكور على الأقل، وهذه الحصيلة لا تقل عما يتم إنفاقه وإهداره سنويًا على قضايا محكمة الأسرة وتداعياتها. أما السناجل من أولي الألباب والعقول الرشيدة فلم يتكبدوا مشقة دفع الأموال وعناء التقاضي غير العادل وقسوة النكران وألم الجحود!
التاريخ ينحاز لمن أبرموا ميثاقًا غليظًا مع “العزوبية” ويُنصف من أخلصوا لـ”السنجلة”، حيث خلَّدهم فى سِجلاته وأبقى على سيرتهم في دفاتره، ومن هؤلاء: إسحق نيوتن، باسكال، ديكارت، سبينوزا، فولتير، جان جاك روسو، كانط، كيركيجارد، نيتشه، ستندال، بلزاك، فلوبير، بودلير، رامبو، رينيه شار، بيتهوفن، ابن النفيس وأبو العلاء المعري، ابن القيم والنووي..وغيرهم كثيرون ومحظوظون جدًا، ولو أن كل واحد من هؤلاء انشغل بالحب والغرام والهيام و”السُّخام” لطوتهم يد النسيان ولم يتركوا أثرًا واحدًا يخلد ذكراهم حتى الآن.
وفى عيد الحب، وكل عيد حب، وكل صباح ومساء وظهيرة.. طوبى للسناجل العظام الكرام الذين ابتعدوا عن الحب وغنوا أو لم يغنوا له، أما العاشقون المغرمون البُلهاء..فلا أراكم الله مكروهًا فى رومانسي لديكم..